: آخر تحديث

لبنان بين سلام الواجهة واستعادة الدولة: الإعلان عن التفاوض لا يكفي

2
3
2

في كل مرة يُطرح من جديد شعار «الذهاب إلى التفاوض»، يتردد على الجانب الآخر صدى تقارير إسرائيلية عن «إعادة بناء قدرات حزب الله»، أو يسود تجاهل كامل للمبادرات اللبنانية. المشكلة ليست في الشعار بحد ذاته، بل في أن لبنان الرسمي يظن أن الإعلان عن نية التفاوض يصلح بديلاً عن امتلاك الدولة لمقوماتها. السلام، أيّ سلام، لا يقوم على البيانات، بل على سيادة فعلية وقدرة دولة واحدة على احتكار القرار والسلاح والحدود. ما عدا ذلك هو «سلام واجهة» ينهار عند أول اختبار.

أول ما ينبغي تثبيته أن مقاربة توماس براك لا تمثل «السياسة الأميركية». إنها توصيف شخصي يسوق لوهم قديم: سلّموا لبنان لحزب الله مقابل وعد مبهم بالتهدئة والازدهار. هذا منطق «صفقة» لا منطق دولة، وهو تكرار رثّ لفكرة أثبتت التجربة أنها لا تنتج سوى مزيد من التفكك. عندما تنوي الولايات المتحدة أن تدفع فعلياً نحو تفاوض مجدٍ، هي تدرك أن نقطة الانطلاق تبدأ عند دولة لبنانية قادرة، لا عند «وكيل» مسلح ولا طبقة سياسية تمارس الهروب إلى الأمام.

إسرائيل، من جهتها، لا ترى في لبنان شريكاً سياسياً بل تحدياً أمنياً، لأن صورة الدولة اللبنانية في الداخل ولدى الإقليم والمجتمع الدولي متصدعة. ما الذي يقنع خصماً أو حليفاً بأننا طرف جدي على طاولة التفاوض إذا كانت مؤسساتنا تعجز عن تطبيق القانون داخل حدودها؟ أي مسار تفاوضي لا تحرسه دولة تتمتع بسيادة كاملة يتحول، بحكم الأمر الواقع، إلى عملية أمنية تديرها الغلبة لا القاعدة القانونية.

لهذا، فإن نقطة البداية لا تكون «التفاوض» بل ترميم صورة الدولة على ثلاثة مستويات مترابطة: أولاً أمام المواطن، ثانياً في الإقليم، وثالثاً لدى المجتمع الدولي. داخلياً، لا بد من استعادة مفهوم الدولة: قضاء مستقل يلاحق الفساد بعيداً من الاستنسابية، وإدارة عامة تحتكم إلى الكفاءة لا المحاصصة، وجيش وأجهزة شرعية تحتكر القوة وتطبق القانون في الجنوب كما في البقاع وفي العاصمة. هذه ليست شعارات؛ هذه شروط وجود. من دون هذه الشروط، سيبقى أي حديث عن القرار 1701 مبتوراً، محصوراً جنوب الليطاني، فيما السيادة ينبغي أن تشمل كل الأراضي وكل الأفعال التي ترتكب باسم لبنان في الداخل والخارج.

إقليمياً، على لبنان أن يبعث برسالة واضحة إلى عواصم الخليج والعالم العربي: نحن نطلب الدعم لإعادة بناء الدولة، لا لتمويل فراغها. الدول لا تستثمر في كيانات معلقة على سلاح خارج شرعيتها. لقد سئم شركاؤنا من خطاب «التدرج» الذي صار غطاءً للعجز. الدعم العربي موجود، لكنه مشروط بإرادة سياسية لبنانية تعلن بوضوح أن سلاح الدولة هو السلاح الوحيد الموجود على أرض الوطن، وأن السياسة الخارجية تصاغ في بيروت لا في غرف متفرقة تضم وكلاء الخارج.

دولياً، على لبنان أن يغادر خانة «الاستثناء الدائم» إلى خانة الالتزام: وضع خريطة طريق معلنة بمهل زمنية محددة بهدف تنفيذ موجبات القرارات الدولية، بدءاً من ضبط الحدود إلى إنهاء اقتصاد التهريب، مروراً بإعادة هيكلة قطاعيه المالي والكهربائي وفق معايير الشفافية. فالمجتمع الدولي ليس جمعية خيرية؛ إنه يتعامل مع حكومات تقدم خططاً وتلتزم بها. حين يلمس هذا الأخير جدية داخلية، يصبح التفاوض على حماية لبنان ومصالحه أمراً ممكناً ومجدياً.

وبالتالي، ينتج عما تقدم خلاصة أساس مفادها أن لا مفر للبنان من النضال الدبلوماسي. لقد أثبتت التجارب أن السلاح والفساد يفسدان صورة لبنان في آن معاً: فالأول يبدد السيادة، والثاني ينهش الدولة من الداخل. الدبلوماسية هنا ليست بديلاً عن القوة، بل هي تترجم القوة الشرعية إلى مكاسب سياسية. لا تكمن قوتنا في فائض الصواريخ، بل في فائض الشرعية: دستور نافذ، وقضاء مستقل، واقتصاد منتج منفتح على العالم، ناهيك عن جيش واحد يفاوض من موقع الدولة لا من موقع "الطرف".

قد يقول قائل: الواقع أقوى من النيات. صحيح، لذلك يجب تحويل النيات إلى برنامج عمل ملموس. ما الذي يمكن فعله الآن، وليس غداً؟ أولاً، إطلاق إعلان سيادي داخلي واضح يجرم أي سلاح خارج الدولة ويضع جدولاً زمنياً واقعياً لدمج هذا السلاح أو سحبه من التداول بإشراف مؤسسات الدولة. ثانياً، تكليف الجيش بتنفيذ خطة انتشار كاملة على الحدود وفي الداخل وفق القرار 1701، مع دعم سياسي ومالي وقضائي علني. ثالثاً، إطلاق ورشة عدالة سريعة وشفافة تعنى بملفات الفساد الكبرى والانفجار والتهريب، لأن العدالة ليست ترفاً أخلاقياً بل شرطاً أساساً من شروط بناء الثقة. رابعاً، توحيد المرجعية التفاوضية للدولة اللبنانية: تعيين فريق مهني واحد، إجراء تفويض واضح، وإقرار مذكرة تفاوض رسمية تصدر عن مجلس الوزراء وتعرض على مجلس النواب.

على المستوى الإقليمي، يبدأ ترميم صورة البلاد باتخاذ خطوات بسيطة تعزز الثقة: إبرام اتفاقات عملية لضبط الحدود ومكافحة التهريب مع الجوار، تفعيل التنسيق الدبلوماسي العربي الذي يضع مسألة «استعادة الدولة» في أولويات لبنان، وليس ضمن جدول أعمال «إدارة الأزمة». أما دولياً، فيجب الانتقال من مرحلة المطالبة بـ«الاستثناءات» إلى مرحلة جذب الاستثمارات المشروطة بالإصلاح، ومن خطاب الشكوى إلى خطاب الشراكة: نحن نمضي في الإصلاح وأنتم تقدمون الدعم، فتكون النتيجة دولة متمكنة واقتصاداً قابلاً للحياة.

قد يرد البعض علينا بالواقعية الباردة: «التفاوض فرصة لا تعوض، فلنذهب الآن ثم نباشر بالإصلاح لاحقاً». هذه إرشادات مجربة ووصفت بالفاشلة. تفاوض بلا دولة قوية ينتج حبراً على ورق. لكن حين تستعاد هيبة الدولة في الداخل، ستتغير طاولة المفاوضات برمتها: إذ يصبح السلام خياراً وطنياً منيعاً، وليس قفزة نحو المجهول. عندها فقط يمكن للبنان أن يجلس مع أي طرف ويعلن بثقة أن لديه قراراً واحداً وحدوداً واحدة وسلاحاً واحداً، وهذه هي مصالحنا المشروعة.

ما أطرحه ليس مثاليات، بل أبجديات العمل السياسي حين يتمحور الهدف حول حماية لبنان لا حماية اصطفافات عابرة. لقد جربنا «الهدن» المؤقتة تحت وطأة السلاح، واختبرنا «الإصلاحات» الموسمية في ظل انتشار الفساد. كانت النتيجة انهياراً اقتصادياً واجتماعياً ومؤسساتياً لم يشهد لبنان مثله منذ قيامه. أما الطريق المعاكس فمعروف: سيادة كاملة، ومؤسسات فعالة، ودبلوماسية نشطة تناضل من أجل مصالح لبنان لا من أجل الاستمرار في تقديم الأعذار.

الإعلان عن التفاوض خطوة خطابية، أما بناء القدرة على التفاوض فهو حوكمة رشيدة لدولة فاعلة. وحين تستعيد الدولة مكانتها، سيستحق لبنان اسمه بجدارة: وطناً لا يساوم على سيادته، وشريكاً لا يختبر أمنياً بل يحترم سياسياً. عندها فقط يصبح أي اتفاق محتمل، أياً كانت تسميته، ترجمة لإرادة اللبنانيين، لا غطاء لعجزهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.