: آخر تحديث

حين صمت العقل في بغداد وقرطبة

1
1
1

لم يحدث التراجع الفكري دفعةً واحدة، بل كان تتويجًا لمسارٍ طويلٍ من التحوّل البطيء في ميزان العقل والنص. فمنذ اللحظة التي تراجع فيها سلطان العقل أمام هيبة التفسير المغلق، بدأت رحلة الانطفاء التدريجي التي ستغيّر وجه الحضارة لقرونٍ تالية. وُلدت البذرة الأولى للنهضة في عهد أبي جعفر المنصور، الذي هيّأ البنية المؤسسية للعلم والإدارة، وظهرت في عهده أولى محاولات الترجمة، ثم نمت في عصر هارون الرشيد واتسعت دوائر الترجمة والمعرفة، وبلغت أوجها في عهد المأمون والمعتصم والواثق، حين صار السؤال معيارًا للعلم لا تهمةً للشك. غير أن هذا الصعود لم يدم طويلًا؛ فمع تولّي المتوكّل العباسي الحكم عام 232هـ، بدأ الانحسار التدريجي لمسار الحرية الفكرية التي كانت عماد الازدهار العلمي والفلسفي للحضارة العربية. لم يكن التحوّل قرارًا سياسيًا مفاجئًا، بل نتيجةَ تفاعلٍ معقّد بين الدين والسياسة والاجتماع، إذ أخذ مسار الفكر الحرّ في التراجع بعد أن بلغ ذروته.

كان عهده يمثّل انتقالًا من «عقل المأمون» إلى «نصّ المتوكّل». فتراجعت حركة الترجمة الكبرى، وخفت وهج المناظرات الكلامية التي كانت تملأ المجالس العلمية، وبرز اتجاهٌ نحو تضييق مساحة الفكر باسم صلاح العقيدة. لقد ألغى المتوكّل امتحان «خلق القرآن» الذي فرضه المعتزلة، غير أنّ الإلغاء لم يكن خطوةً نحو الحرية الفكرية، بل إيذانًا بمرحلة جديدة من تقييد التأويل وإعلاء القراءة الحرفية للنص. ومنذ ذلك الوقت، تحوّل اهتمام الدولة من رعاية البحث العلمي إلى مراقبة الإيمان، ومن فضاء التساؤل إلى طمأنينة التسليم.

في هذا المناخ تراجع علم الكلام وضعفت مكانة الفلسفة، فتقدّمت عليهما الفروع الفقهية التي وجدت في بيئة السلطة سندًا وحماية. وأصبح العلماء يسعون إلى الانتصار للمذهب أو الطائفة أكثر من البحث عن الحقيقة، وتحوّلت المدارس الفكرية إلى أطرٍ مغلقةٍ يسكنها التقليد. ثم جاءت مرحلة أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ)، قمّة التحوّل الفكري، وبالرغم من أنه كان واسع الاطلاع على منطق أرسطو وأدواته في الاستدلال، إلا أنه استخدمها لينقض تصوّرات الفلاسفة في مختلف الفروع، محوِّلًا وجهة المعرفة من التفكير الجدلي إلى التجربة الروحية. وفي تهافت الفلاسفة وجّه نقده إلى الفلاسفة المتأثرين بأرسطو، وفي مقدمتهم ابن سينا والفارابي، قاصرًا دور العقل على البرهان اللفظي دون إدراك ما وراء الحسّ. ثم انتهت مسيرته إلى نزعةٍ صوفيةٍ اعتبرت التجربة الروحية الطريق الأوحد إلى معرفةٍ تفوق قدرة العقل. وعندها انقطع الحبل الذي كان يصل الإيمان بالفكر الحرّ، وبدأ الإنسان يفقد ثقته بوعيه وقدراته العقلية.

لم يكن الغزالي سبب الانهيار الكامل، بل حلقةً أخيرة في سلسلةٍ بدأت قبل قرنين من عصره. فمنذ مقتل المتوكّل دخلت الخلافة مرحلة اضطرابٍ طويل، تغلغل فيها الأتراك في مفاصل الحكم حتى صاروا يتحكمون في الخلفاء، ومالت السلطة إلى الصراع أكثر من رعايتها للعلم. وتراجع نفوذ المعتزلة الذين – بالرغم من استبدادهم في «المحنة» – رفعوا شأن النظر العقلي، هم ومن جاء بعدهم من الفلاسفة الذين وسّعوا آفاق التفكير البرهاني. ثم تعاظم نفوذ تيار أهل الحديث، الذي جعل النصَّ ميزانَ المعرفة وأقصى الجدل العقلي، تلاه ظهور الأشعرية التي مثّلت نقلةً محدودةً عنه، إذ أبقت على سلطان النصّ لكنها أجازت للعقل دورًا استدلاليًا في خدمته لا في محاكمته.

ومع نهاية القرن السادس الهجري، ترسّخت «المدارس النظامية» في المشرق، وغلب عليها الاهتمام بالحفظ والتلقين على حساب التفكير والتأمل. تراجع الإقبال على الفلسفة، وصار الإنسان تابعًا للنص لا شريكًا في توليد معناه، وغدا السؤال مصدر قلقٍ بعد أن كان سبيلًا إلى المعرفة.

وفي الأندلس تكرّرت الأحداث بملامح مختلفة. ففي عهد خلفاء بني أمية ازدهرت العلوم والفلسفة، فغدت قرطبة مركزًا يضاهي بغداد في مكانتها الفكرية والعلمية. ثم جاء المرابطون، الأكثر التزامًا بعقيدة أهل الحديث والأثر، فعدّوا الفلسفة بدعةً، فاشتدت الريبة من أهلها، وتعرّض ابن باجة للمضايقات بسبب نزوعه العقلي وميله إلى التأمل الفلسفي. ومع تضييق الفكر الفلسفي تقلّصت ميادين البحث الحرّ، وغلب النقل على البرهان. وبعدهم حمل الموحّدون مشروعًا إصلاحيًا محدودًا في عهد أبي يعقوب يوسف، بإسهام ابن طفيل وابن رشد، غير أنّ هذا الانفتاح انهار في عهد ابنه يعقوب المنصور (ت. 595هـ)، فحُرقت الكتب ونُفي ابن رشد. وهنا انتقلت الأندلس من فضاء الفكر الحرّ إلى مرحلة التدرّج في الانحسار.

وهكذا تكرّر المشهد في المشرق والغرب معًا؛ حيث تحالفت السلطة مع الفكر الأصولي، وتراجعت المناظرات، واتُّهمت الفلسفة بأنها تهديدٌ للإيمان. غير أن الفارق كان في النتيجة؛ فالفكر الذي حورب في قرطبة وهاجر مع كتبه إلى مراكز الترجمة في طليطلة وأوروبا، تُرجم إلى اللاتينية وأصبح منطلقًا لنهضتها الفكرية والعلمية. فقد كانت اللاتينية آنذاك لغةَ الفلسفة والعلم في الجامعات والكنائس، ومنها انتقلت شروح ابن رشد وأعمال ابن سينا والفارابي والزهراوي وابن الهيثم إلى أوروبا، لتُعيد تشكيل الوعي العلمي والفلسفي الغربي في العصور الوسطى المتأخرة.

لقد كان وجه الشبه الأعمق بين التجربتين أن القيادة التنويرية فيهما ارتبطت بالأشخاص لا بالمؤسسات؛ فحين غاب الخلفاء والرعاة الذين احتضنوا العلم والفكر، انهار المشروع كله لغياب البنية المؤسسية القادرة على حفظ استمراره وتطوره. ومن هنا جاءت تلك الانتكاسة التي عمّت المشرق والأندلس معًا؛ فلم تكن حادثةً عابرة، بل تحوّلًا في بنية العقل العربي ذاته، إذ غلب الامتثال على السؤال، فتراجعت المناظرات والاكتشافات العلمية، وخمدت في العقل العربي جرأة التجريب. ومنذ ذلك الزمن انشغل فقهاء المنطقة ووعّاظها بتكرار المقولات القديمة وتحصين الموروث أكثر من تجديد أدوات النظر أو مساءلة المسلّمات.

ومع ذلك، لم يكن الصمت تامًّا في تلك المرحلة؛ فقد برزت ومضات فكرية في المشرق وشمال أفريقيا، لكنها ظلّت جهودًا فردية بلا دعمٍ مؤسسي كالذي عرفته بغداد وقرطبة.

أخيرًا، لم يعُد عصر النهضة الأولى – بالرغم من أهميته وسبقه العلمي – غايةً نعيد إنتاجها، بل مرآةً نقرأ فيها قدرتنا على النهوض من جديد، لأن عظمته تُقاس بسياقه التاريخي لا بمقاييس حاضرٍ تبدّلت أدواته وتحدّياته.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.