: آخر تحديث

غزة...حين يصبح البقاء أهم من الانتماء

2
2
2

من كان يتصور أن المعتوه يحيى السنوار، الذي بشّر بالدمار القادم وقال إنها "حرب إقليمية دينية ستغيّر شكل الكرة الأرضية وستحرق الأخضر واليابس"، ستكون نبوءته الوحيدة الصادقة، ولكن ليس بالطريقة التي أرادها. فالدمار الذي أطلق شرارته في مجزرة 7 أكتوبر ضد المدنيين الاسرائليين لم يصب خصومه فقط، بل أحرق غزة وأهلها. وبعد مقتله، وهروب عائلته إلى إحدى الدول الإقليمية التي لا تزال ترفع شعارات المقاومة بينما تستضيف قادة التنظيمات في فنادقها الفاخرة، تحققت نبوءته فعلاً وغزة تغيّر شكلها إلى الأبد، جغرافيًا وبشريًا، لكن في الاتجاه المعاكس تمامًا لما خطط له.

في الحقيقة، ما يجري في غزة اليوم يمثل تحوّلاً تاريخيًا يعيد رسم طبيعة الصراع وموازين النفوذ في المنطقة. ومن وجهة نظري كمراقب، فإن ما يُسمّى بـ الخط الأصفر الذي يغطي نحو سبعة وخمسين في المئة من مساحة القطاع ويخضع لرقابة مباشرة من الجيش الإسرائيلي، بات يشكّل كيانًا فعليًا مختلفًا عن بقية المناطق التي تخضع لسلطة حماس الإرهابية.

ففي تلك المناطق الخاضعة للإشراف الاسرائيلي المباشر، يشهد السكان استقرارًا نسبيًا في الخدمات الأساسية، حيث تصل المساعدات الإنسانية بانتظام وبعيدًا عن عمليات النهب والاحتكار التي كانت شائعة في السابق. هذا الاستقرار اللوجستي، وإن كان محدودًا، أتاح للسكان شعورًا أوليًا بالأمان المعيشي الذي لم يكن متاحًا لهم في ظل السنوات الماضية.

في الحقيقة ان الفوارق الميدانية بين المنطقتين لم تعد موضع جدل، ففي الوقت الذي بدأت فيه بعض المناطق المحايدة باستعادة إيقاعها الإنساني، ما زالت مناطق سيطرة حماس الارهابية تعيش في دوامة من الفوضى الأمنية والانتقام الداخلي. فبعد اتفاق الهدنة المبرم في العاشر من أكتوبر 2025، أطلقت الحركة حملة "مباركة وطاهرة" لتصفيات داخلية استهدفت المدنيين تحت ذرائع التعاون مع العدو. ووفق تقارير موثقة، تم تنفيذ إعدامات علنية في أحياء الشجاعية وبيت لاهيا وخان يونس ومخيم النصيرات، بلغ عدد ضحاياها بين 180 و220 شخصًا خلال أسبوع واحد فقط. وقد أُجبر الضحايا على الركوع قبل إطلاق النار على رؤوسهم أمام المارة، في مشهد يعكس انهيارًا أخلاقيًا غير مسبوق، وتأكيدًا على أن منطق القوة لا يزال يحكم العلاقة بين التنظيم والمجتمع.

أعتقد أن هذه التطورات المتسارعة فتحت الباب أمام تساؤلات جوهرية حول مستقبل غزة وسكانها، وحول المسارات الممكنة للخروج من حالة الانقسام والعزلة. ومن بين تلك المسارات ما طُرح مؤخرًا من إمكانية حصول بعض سكان غزة  في المناطق على تسيطر عليها دولة إٍسرائيل على المواطنة الإسرائيلية، كخيار فردي يهدف إلى ضمان الأمان والاستقرار الشخصي، بعيدًا عن الأدلجةة أو الصراع السياسي التقليدي.

 ورغم حساسية الفكرة، إلا أن النظر إليها من زاوية إنسانية يكشف بعدًا مختلفًا تمامًا، حيث يمكن النظر إلى هذا الخيار كفرصة لإعادة بناء حياة طبيعية في بيئة قانونية ومؤسساتية تتيح الحماية والنظام. إذ سيحصل الفلسطينيون مثل اخوتهم الذين حصلوا على المواطنة الإسرئيلية من قبل على فرص تعليم وعلاج وخدمات اجتماعية متكاملة، إضافة إلى الحق في العمل ضمن سوق مستقر يوفّر دخلاً ثابتًا ومستقبلاً واضحًا لأسرهم. كما أن حرية التنقل والسفر – التي كانت حلماً بعيد المنال – ستصبح متاحة في إطار قانوني منظم. هذه التفاصيل اليومية، التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، تمثل تحولاً جذريًا في حياة أشخاص عاشوا عقودًا من الانقطاع والعزلة، بين الشعارات والحرمان.

من وجهة نظري، فإن هذا التحول قد يفتح أيضًا أمام دولة إسرائيل فرصًا استراتيجية متعددة، فعملية دمج السكان ضمن منظومة مدنية واقتصادية مستقرة سيخلق مصالح مشتركة قائمة على الأمن والتنمية بدلاً من التوتر الدائم، وبالتالي سيساهم ذلك في تحويل جزء من المجتمع الغزّي من عنصر تهديد إلى عنصر استقرار، ما يعني تراجع احتمالات ظهور بؤر توتر جديدة. كما أن نجاح التجربة سيمنح دولة إسرائيل غطاءً إنسانيًا وأخلاقيًا أمام المجتمع الدولي، إذ يمكن تقديمها كخطوة لإعادة بناء الحياة الطبيعية، بدل استمرار واقع الفوضى والمعاناة.

لكن بلا شك، هذا الخيار محفوف بتحديات لا يمكن تجاهلها، فعملية الاندماج الاجتماعي والثقافي تحتاج إلى وقت وتفهّم متبادل، خاصة في ظل تراكمات نفسية وتاريخية معقدة. ومن الطبيعي أن يواجه بعض الأفراد صعوبات في التأقلم أو ربما نظرة متوجسة من بعض الشرائح الاجتماعية. كما أن القوى الفلسطينية والعربية الرافضة لمثل هذا التوجه ستسعى لتشويه الفكرة ووصم أصحابها بالخيانة، رغم أن أكثر من مليوني إسرائيلي من اصول فلسطينية يعيشون فعليًا داخل إسرائيل كمواطنين ويتمتعون بكامل حقوقهم السياسية والمدنية، بل ويمتلك بعضهم أحزابًا وتمثيلاً برلمانيًا واضحًا لدرجة انهم يمتلكون الحرية على القيام بالمظاهرات والعمل السياسي حتى انهم مؤخرا تظاهروا لشتم الدول العربية جهارا نهارا، هذه المفارقة تكشف ازدواجية الموقف والنفاق السياسي والكذب الذي يرفض حرية الاختيار حين تكون نابعة من الأفراد لا من الشعارات.

وفي نهاية الامر، أرى أن خيار المواطنة الإسرائيلية لبعض سكان غزة لا يمكن اعتباره حلًا سحريًا، لكنه بلا شك يمثل مقاربة براغماتية جديدة لوضع إنساني معقد. فهو يتيح للفرد حرية الاختيار في تقرير مصيره ومصير أبنائه ضمن ظروف تضمن الكرامة والأمان، بعيدًا عن منطق الشعارات الذي استنزف أجيالاً متتابعة دون جدوى. يبقى الأمر في النهاية قرارًا شخصيًا يجب أن يتم في بيئة حرة ومسؤولة، تحترم إرادة الإنسان وحقه في النجاة والعيش الكريم، فالكرامة لا تُمنح بالشعارات، بل تُصنع بالقدرة على اتخاذ قرار شجاع حين يصبح الصمت شكلًا من أشكال الموت.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.