: آخر تحديث

الدرس المغربي

1
2
1

صمد المغرب خمسة عقودٍ مدافعًا عن وحدة أراضيه. فقد ظل طيلة هذه السنوات في حالة حرب استنزاف ميدانية ومالية واقتصادية. بيد أن هذا الوضع لم يدفعه إلى إعلان حالة الطوارئ، ولا إلى وقف العمل بالدستور، أو حظر الأحزاب السياسية، أو إيقاف صحف المعارضة. بل سار عكس التيار السائد آنذاك في غالبية بلدان العالم الثالث، ومضى قُدُمًا في بناء المسلسل الديمقراطي وترسيخ الحريات.

عقب تنظيم المسيرة الخضراء السلمية سنة 1975، التي دعا لها الملك الراحل الحسن الثاني، وشارك فيها 350 ألف مغربي ومغربية، بينما بلغ عدد المشاركين الحقيقيين، حسب ما أسرّ لي به الراحل عبد الهادي بوطالب، مستشار الملك الحسن الثاني ووزيره، أكثر من 500 ألف مشارك ومشاركة، استضافت الجزائر فوق أراضيها تنظيمًا مسلحًا هو “جبهة البوليساريو”، وظهر بجلاء أنها قررت شن عدوان على المغرب.

وفي أوج حرب الصحراء، أطلق الملك الحسن الثاني ما اصطلح عليه آنذاك بـ ”المسلسل الديمقراطي”، حيث تم إصدار أول ميثاق للجماعات المحلية (البلديات)، والذي عُدّ في حينه ميثاقًا متقدمًا. كما جرى تنظيم الانتخابات البلدية والقروية سنة 1976، تلتها الانتخابات التشريعية في 3 يونيو 1977.

حمل الملك الحسن الثاني البندقية للدفاع عن وحدة البلاد بيد، ورفع مشعل بناء الدولة وتقويتها باليد الأخرى. فطيلة الخمسين سنة من معركة الدفاع عن السيادة على الصحراء، لم يتوقف المسلسل الديمقراطي قيد أنملة، بل واصل مساره بانتظام إلى أن تُوّج بتشكيل حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، التي قادها حزب المعارضة العتيد "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، بزعامة عبد الرحمن اليوسفي.

وعندما تولّى الملك محمد السادس العرش خلفًا لوالده صيف 1999، سار على النهج ذاته، مع تطويره وإغنائه.

هذا، إذًا، هو “الدرس المغربي” الذي يبين كيف يمكن تحقيق التوازن بين الدفاع عن الوطن وصدّ العدوان، وفي الوقت ذاته بناء الدولة والمضي بثبات في مسار التنمية وإنجاز البنى التحتية. إنها معادلة مغربية بامتياز.

واليوم، يدخل المغرب، عقب صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797، الذي تبنى مقترح الحكم الذاتي الذي قدمته الرباط سنة 2007، مرحلة جديدة جراء اختراق دبلوماسي غير مسبوق، ما جعل الملك محمد السادس يقول في خطابه الموجّه إلى الشعب المغربي مساء الجمعة الماضي «إننا نعيش مرحلة فاصلة ومنعطفًا حاسمًا في تاريخ المغرب الحديث. فهناك ما قبل 31 أكتوبر 2025، وهناك ما بعده».

في 6 يناير1989، جرى في مراكش لقاء بين الملك الحسن الثاني ووفد من قيادة جبهة البوليساريو الانفصالية المدعومة من الجزائر.

كان الملك الراحل حاسمًا، حين شدد على أن كل شيء قابل للنقاش باستثناء سيادة المغرب على صحرائه. أي أن يحتفظ المغرب بالعلم، والطابع البريدي، والعملة الوطنية، والسياسة الخارجية، والدفاع، على أن يعود قادة وأعضاء الجبهة إلى المغرب من دون استثناء، مع ضمانات بعدم المتابعة أو الانتقام، وإدماج أطرهم العسكرية والسياسية في مؤسسات الدولة المغربية (القوات المسلحة الملكية، والإدارة الترابية، والبرلمان، الخ).

رفع الملك الحسن الثاني آنذاك شعار «الوطن غفور رحيم»، في رسالة واضحة مفادها أن الدولة قادرة على احتواء أبنائها مهما كان الخلاف، شريطة الاعتراف بوحدة التراب الوطني. لكنه أشار في المقابل إلى أن الانفصال خط أحمر، وأن الإدارة الذاتية تبقى ممكنة، وبسقف عالٍ.
لقد شكلت مقترحات الحسن الثاني حينها البذور الأولى لما سيُعرف لاحقًا بـ”الحكم الذاتي” في الصحراء، والذي يضمن تدبير السكان لشؤونهم المحلية في إطار السيادة المغربية، وهو ما برز رسميًا سنة 2007 في عهد الملك محمد السادس.

اكتفى وفد جبهة البوليساريو في مراكش بالاستماع دون رد، لكونه لم يكن يملك صلاحية اتخاذ القرار. أما القيادة في مخيمات تندوف (جنوب غربي الجزائر) فكان موقفها هو الرفض تحت ضغط واضح للجزائر، التي كانت وما زالت تضع فيتو على أي حل لا يقوم على أساس "استفتاء تقرير المصير"، كما تريده هي. 

وإذا كان لقاء مراكش لم يحقق اختراقًا نهائيًا، فإنه جسّد انتقالًا من منطق الحرب إلى منطق التفاوض، وشكل محطة ضمن المسار الذي أفضى إلى خطة التسوية الأممية سنة 1991، ووجود بعثة “مينورسو”. لكن تنظيم الاستفتاء اصطدم بتعقيدات تحديد الهوية. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، أن "بوليساريو" كانت تقبل تسجيل شخص من المخيمات ضمن لوائح المصوتين، بينما ترفض تسجيل شقيقه أو ابن عمه المقيم في الصحراء المغربية.

بين 6 يناير 1989 و31 اكتوبر 2025 جرت مياه كثيرة تحت جسر ملف الصحراء. فقد اعتمد مجلس الأمن مبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها الحل الوحيد الواقعي والعملي. لقد تغير المزاج الدولي، وأصبح واضحًا أكثر من أي وقت مضى أن النزاع إقليمي مفتعل، تتمسك به الجزائر بإصرار.

واليوم تواصل الجزائر رفضها لاي تسوية خارج إطار مبتغاها، حتى لو أدى ذلك إلى مواجهة مع الأمم المتحدة والعالم. وعلى نهجها، رفضت جبهة البوليساريو قرار مجلس الأمن الأخير.
تحاول الجزائر أن تحافظ على ما بقي من ماء وجهها بالرفض. بينما يبقى السؤال: إلى أي مدى سيصمد هذا الرفض؟

لقد قال الملك محمد السادس في خطابه الأخير إنه رغم التطورات الايجابية التي عرفتها قضية الصحراء، فان بلاده تبقى حريصة على إيجاد حل لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف. كما أنه أشار إلى أن المغرب لا يعتبر هذه التحولات انتصارا، ولا يستغلها لتأجيج الصراع والخلافات. ومن هنا جاءت دعوته للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لاجراء "حوار أخوي صادق"، بين المغرب والجزائر، من أجل تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة، تقوم على الثقة، وروابط الأخوة وحسن الجوار.

فضلا عن ذلك، جدد العاهل المغربي التزامه بإحياء الاتحاد المغاربي، على أساس الاحترام المتبادل والتعاون والتكامل بين دوله الخمس.

تصوّروا منطقة مغاربية بحدود مفتوحة من وجدة إلى السلوم على الحدود الليبية – المصرية؟ ستكون بالتأكيد جنة الضفة الجنوبية للمتوسط، وستتراجع أسباب التوتر والانفصال التي تهدد الجميع من دون استثناء.

إن رحلة الألف ميل المغاربية تبدأ بخطوة واحدة هي تفعيل مخطط الحكم الذاتي على أرض الواقع. وهي رسالة مغربية واضحة تحفظ ماء وجه الجميع، وفي طليعتهم شعوب المنطقة.

في سياق ذلك، أعلن الملك محمد السادس عزم بلاده تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، وتقديمها قريبًا للأمم المتحدة كأساس وحيد للتفاوض، باعتبارها الحل الواقعي والقابل للتطبيق.

وفي جميع الأحوال، إن المغرب موجود في صحرائه. والكرة الآن في ملعب الجزائر. فمخطط الحكم الذاتي هو الفرصة الأخيرة لضمان سلم واستقرار دائمين في المنطقة.

وبينما يستعد قطار الحكم الذاتي للانطلاق. هل  ستختار الجزائر ركوبه؟ أم ستضيع، مرة أخرى، على من تريد تقرير مصيرهم، فرصة لا تتكرر؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.