: آخر تحديث

التراث والعقل: عندما تصبح القداسة سجناً

2
2
2

 

شاهدتُ مقطع فيديو لطقوس غريبة يؤدّيها حشود من الهنود في نهر الغانج، فدهشتُ من حجم التناقض في المشهد؛ ففي الوقت نفسه، هو شريان حياة لملايين البشر، ومجرًى للمخلّفات الصناعية والكيميائية والبشرية.

يراه المؤمنون تجسيدًا للإلهة "غانغا"، وتلامس مياهه أرواحهم طلبًا للتطهير، بينما تُظهر التحاليل العلمية مستويات تلوث قاتلة تجعله من أكثر أنهار العالم خطورة.

بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، تتجاوز مستويات البكتيريا القولونية فيه ألف ضعف الحد المسموح به.
ذلك التعايش بين القداسة والتلوث ليس مجرد ظاهرة بيئية، بل هو مرآة لعقلية جمعية تسكن كثيرًا من المجتمعات، حيث يُقدَّم الإرث الثقافي والديني على منطق العقل والحكمة، وأحيانًا حتى على ضرورات البقاء.

التراث كحصن منيع: آلية الدفاع النفسي والاجتماعي

عندما يُرفَع التراث إلى مرتبة "الحق المطلق"، يتحول إلى درع يحمي الذات الجمعية، لكنه قد يُغلِق باب النقد. وتتجلّى هذه الآلية في مظاهر متعددة.

أولها التبرير المعرفي، حيث يُفسّر العقل النتائج السلبية بما يتناسب مع المعتقد. فمن يستحمّ في الغانج ولا يمرض، يراه "بركة إلهية"، متجاهلًا إحصاءات الأمراض المنقولة بالمياه (مليون حالة وفاة سنويًا في الهند، حسب Lancet 2022).

وثانيها الخوف من الانسلاخ؛ إذ تدفع الخشية من الوصم الاجتماعي أو الطرد من دائرة الانتماء الأفراد إلى الامتثال، حتى لو كان ذلك على حساب صحتهم أو كرامتهم.

أما ثالثها فهو الاستثمار المعنوي، فكلّما زاد الاستثمار النفسي والاجتماعي في فكرة ما، صعُب التخلي عنها. ومع مرور الأجيال، تتراكم الطقوس والتبريرات لتتحوّل إلى جزء من هوية المجتمع.

من النهر إلى مفاصل الحياة

لا يقتصر هذا النمط من التقديس غير الواعي على الأنهار أو الرموز الدينية، بل يتسلّل إلى كل مجالات الحياة.

في المجال الديني، تُستخدم بعض الممارسات والفتاوى كحدود فاصلة للهوية والانتماء، رغم تعارضها مع العقل السليم وروح العصر، وتتحوّل الخلافات الفكرية إلى ساحة لتبادل التهم بين المختلفين.

أما في التقاليد الاجتماعية، فتبقى عادات مثل "المهور الباهظة"، و"الزواج القسري"، و"جرائم الشرف" قائمة، لأنها مغلّفة بغطاء "العرف" و"العادة". وكل محاولة لتصحيحها تُواجَه باتهامات بتقويض الأخلاق أو اتباع ثقافات دخيلة.

وفي السياسة، تُقدَّس الأيديولوجيات والشخصيات السياسية، ويبقى الناس متمسكين بأنظمة أو زعماء رغم فشلهم، بدعوى الحفاظ على "رمز الهوية المتخيّلة" في مواجهة الخارج. في هذا السياق، لا يُناقش النقد بل يُقمع، لأنه يُعدّ خروجًا على الولاء.

وفي الثقافة والتعليم، يُبرَّر الجمود تحت شعار "الحفاظ على الأصالة"، فتستمر أنماط فنية وتعليمية لم تعد تواكب روح العصر، وتُنتج أجيالًا غير قادرة على المنافسة في عالم متغير.

النتيجة: قداسة تُكرّس التخلّف

حين تكتسب فكرة ما ثوب القداسة، تتحصّن ضد النقد، ويتحوّل السؤال من: هل هي صحيحة أو نافعة؟ إلى: هل أنت معنا أم ضدنا؟

وفي خضمّ سجالات فكرية سابقة، حاولتُ تشريح هذه الظاهرة التي تتسلّل إلى خطابنا الديني والثقافي لتُفرغه من مضمونه، فصغتُ منذ عام 2010 مصطلحًا أسميته «التبعيض» أو «البعبضة».

وهو انتقاء محسوب، يبدو في هيئة عتابٍ لغوي أو نصيحةٍ وعظية، لكنه يُقصي المخالف بصمتٍ آمن. لا يُشهر سيف التكفير، بل يحرّك خيوط العقول من وراء ستار.

فأصحاب “التبعيض” يحرّفون المفاهيم، ويختزلون السجال إلى تفاصيل لغوية وفقهية ضيقة، ليس حرصًا على الدقة، بل خشية المواجهة الصريحة مع الأفكار.
في هذه البيئة، يسهل على أصحاب النفوذ – من رجال دين أو زعماء قبائل أو سياسيين – توظيف "التراث المقدس" لتثبيت سلطتهم.
فيصبح "إرضاع الكبير"، و"تلويث النهر"، و"التمسك بنظام سياسي فاشل"، وجوهًا مختلفة لعملة واحدة: أدوات للهيمنة تحت غطاء "حماية الموروث".

لهذا وجدتُ في "التبعيض" خطورة أكبر من التكفير الصريح، لأنه لا يحمل سيفًا، بل يخنق العقلَ بخيوط “الحرص على الدقة” و”الصواب”، بينما يُقصي كلَّ من يخالفه في التفاصيل.
هو ليس خطأً فقهيًا، بل ثقافة إقصاء متقنة، تمنع السؤال قبل أن يُولَد.

النموذج السعودي: تنقية التراث دون قطيعة

الخلاص لا يكون بقطع الصلة بالماضي، بل ببناء وعي نقدي يميّز بين جوهر التراث وقشوره، بين ما يشكّل ثراءً إنسانيًا، وما هو تفسير تاريخي تجاوزه الزمن.

ومن هذا المنطلق، قدّمت السعودية نموذجًا مختلفًا وجريئًا في مواجهة الجمود الفكري. اختارت فيه المملكة تنقية تراثها من شوائب الفكر المتشدّد التي علقت به عبر عقود.

وجاءت الخطوة التاريخية بإنشاء اللجنة العليا لمراجعة الأحاديث النبوية وتنقيتها ممّا لم يثبت صحته، كأحد أبرز محاور هذه المواجهة الفكرية (لجنة تنقية الأحاديث – 2021).

وقد عبّر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن ذلك صراحةً، حين تحدّث عن "أربعة عقود من التطرف" وضرورة العودة إلى "الإسلام الوسطي المعتدل"، مشخّصًا بذلك جوهر الداء، ومعلنًا مرحلة جديدة من الوعي والإصلاح.
(تصريح ولي العهد في مقابلة CBS News، أيلول/سبتمبر 2018)

من التنقية إلى إعادة التركيب

لم تكن هذه التنقية مجرّد خطوة فقهية، بل جزءًا من مشروع مجتمعي شامل يعيد تركيب منظومة الوعي السعودي، لينتقل المجتمع من الانغلاق إلى الانفتاح، عبر رؤية 2030؛ ومن ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإبداع بتمكين الشباب والمرأة؛ ومن تفسير أحادي للدين إلى فضاءات متعددة تسمح بالاجتهاد وتقبّل الآخر.

عقلانية متصالحة مع الهوية

الفرق بين نموذج نهر الغانج والنموذج السعودي هو الفرق بين التعامل الحيوي والجمود مع التراث. فبينما يظل النهر الهندي مقدسًا رغم تلوّثه الحسي والمعنوي، تقدّم السعودية نموذجًا للقداسة الحقيقية التي لا تكمن في التمسك الأعمى بكل قديم، بل في الشجاعة لتمييز الصحيح من السقيم، والنافع من الضار.

التراث ليس سجنًا، بل سندًا للتقدّم إذا تمّت مراجعته نقديًا.
يمكن للهند أن تحتفظ برمزية الغانج وتنظّفه علميًا.
يمكن للمجتمعات العربية أن تُمسك بالقيم الدينية وتُجدّد تفاسيرها.
والشجاعة الحقيقية ليست في التمسّك الأعمى، بل في القدرة على التمييز بين النافع والضار.

السعودية اليوم لا تُمجّد الماضي فحسب، بل تُفهمه وتُنقّيه لبناء حاضر أكثر إشراقًا.
فالتراث الحي هو الذي يتجدّد، لا الذي يُجمّد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.