تبدو الحركات المسلحة في الشرق الأوسط اليوم أمام لحظة مراجعة عميقة لا تقل خطورة عن لحظات انطلاقتها الأولى، بعد عقودٍ من رفع شعار المقاومة وتقديم السلاح باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق العدالة أو التحرير، فالمعادلة التي حكمت هذه الحركات منذ منتصف القرن الماضي وصلت إلى طريقٍ مسدود: لا حربٌ تحسم، ولا سلامٌ يُبنى، فيما تتآكل شرعية البنادق أمام وعي شعبي مرهق من الخراب، وتتحوّل الكلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى عبءٍ لم يعد يحتمله أحد، فقد أصبحت البندقية التي وُلدت بدافع التحرر من الاحتلال أو الظلم عبئاً على أصحابها ومجتمعاتها معاً، في فلسطين ولبنان وتركيا والعراق وسوريا، دفعت الشعوب أثماناً باهظة من الدمار والنزوح وتعطل التنمية، حتى غدت الحرب حالة مستدامة تُغذيها الصراعات الإقليمية أكثر مما تخدم القضايا الوطنية، ومع كل جولة عنف جديدة، يتراجع الخطاب الوطني لصالح أجندات تتقاطع فيها المصالح الخارجية مع بقايا الشعارات القديمة، فتتحول بعض هذه الحركات من حركات تحرر إلى وكلاء سياسيين في ساحات متشابكة.
إن ما نشهده اليوم من تحولات، سواء في إعلان حزب العمال الكردستاني حل تنظيمه جزئياً، أو في دعوات «حزب الله» لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمقاومة، أو حتى في محاولات «حماس» لإعادة تموضعها سياسياً، يكشف عن إدراك متزايد بأن زمن السلاح المفتوح يقترب من نهايته، وأن الشرعية الجديدة لا تُستمد من البندقية، بل من القدرة على إدارة السلام بوعي ومسؤولية، فالتجربة الكردية في العراق خلال ستينات القرن الماضي تقدم أنموذجاً مبكراً لهذا الإدراك، فقد قاد الزعيم الكردي مصطفى البارزاني ثورة مسلحة انطلقت عام 1961 في مواجهة سياسات الإقصاء والظلم، لكنها لم تكن حرباً عبثية، بل كانت ثورة تحمل مشروعاً سياسياً واضحاً قوامه التفاهم لا الانتقام، والتفاوض لا الثأر، وفي كل هدنة كان البارزاني يرى فرصة لصناعة السلام، وفي كل تفاوض كان يسعى إلى اتفاقٍ يضمن كرامة الكُرد وحقوقهم ضمن عراقٍ ديمقراطي اتحادي عادل.
من عبد الكريم قاسم إلى عبد السلام عارف، ومن أحمد حسن البكر إلى صدام حسين، خاض البارزاني عشرات جولات الحوار بحثاً عن صيغة سلامٍ تحفظ للجميع مكانهم في الوطن، ولم يكن يرى في السلاح سوى وسيلة اضطرارية حين تُغلق الأبواب أمام الحلول السياسية، حتى في أشد لحظات الحرب ضراوة، كان يؤمن بأن الثورة لا تكتمل بالنصر العسكري، بل بتحقيق السلام القائم على العدالة، لذلك بقيت ثورته، رغم امتدادها لأربعة عقود، خالية من نزعات الثأر أو الكراهية، ومفتوحة على المصالحة متى ما توفرت الإرادة السياسية لدى الطرف الآخر.
هذه التجربة تضيء مفترق الطرق الذي تقف عنده اليوم حركات المقاومة في المنطقة، فكما كان البارزاني يدرك أن الرصاصة الأخيرة لا تصنع دولة، تدرك القوى المسلحة المعاصرة أن التمترس خلف البنادق لم يعد مجدياً في عالم تغيّر فيه ميزان القوة والشرعية، فالمجتمعات التي أنهكتها الحروب لم تعد تصدق شعارات التحرير إذا جاءت على حساب الخبز والأمان، والمقاومة التي لا تتحول إلى مشروع بناءٍ تصبح جزءاً من المشكلة لا من الحل كما حصل في كارثة غزة.
إن ما تحتاجه المنطقة ليس فقط نزع السلاح المادي، بل نزع ذهنية الحرب التي صاغت وعي أجيالٍ كاملة على الخوف والعداء والانتظار، فالمقاومة الحقيقية اليوم ليست في الميدان وحده، بل في بناء وعي سياسي قادر على التمييز بين الدفاع المشروع والمغامرة العبثية، وبين حماية الوطن واستنزافه؛ عند هذه النقطة يصبح الوعي هو الاختبار الحقيقي قبل السلاح، وتصبح الشجاعة مقياساً لا لمن يطلق الرصاصة، بل لمن يجرؤ على إيقافها.
السلام في الشرق الأوسط لم يعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة وجودية لكل دوله ومكوناته، والواقع يفرض أن زمن الحروب المفتوحة قد انتهى، وأن بناء المستقبل يتطلب الانتقال من ثقافة المقاومة الدائمة إلى ثقافة المراجعة الواعية، فليس من ضعفٍ في أن تضع الحركات سلاحها، إنما الضعف في أن تبقى أسيرة وهمٍ بأن الحرب وحدها قادرة على صناعة السلام، وكما قال الزعيم الكردي مصطفى البارزاني ذات مرة: «لم نحمل السلاح إلا لرفع الحيف وصناعة السلام».
في هذه العبارة تختصر المنطقة كلها دروسها المؤجلة؛ فكل بندقية لا تعرف متى تصمت، تُفقد نفسها المعنى الذي وُلدت من أجله، وكل حركة لا تراجع وعيها قبل سلاحها، تُعيد التاريخ إلى نقطة الصفر.

