: آخر تحديث

مجلس النواب العراقي: برلمان بلا قادة؟

3
3
3

يعاني مجلس النواب العراقي ظاهرة خطيرة تفرغه من محتواه وتجعله "برلماناً بلا مرجع"، وهي غياب القيادات السياسية من الصف الأول عن المقاعد أو المناصب البرلمانية. فبينما تتخذ القرارات المصيرية خارج أروقة البرلمان في غرف مغلقة من قبل زعماء الأحزاب والكتل، يجلس في قبة البرلمان نواب من الصف الثاني والثالث، ليسوا سوى أدوات تنفيذية لقرارات تُملَى عليهم من الخارج.

القيادات الحقيقية للكتل السياسية الكبرى نادراً ما يترشحون للبرلمان، أو إذا فازوا لا يحضرون جلساته بانتظام، فالقرارات الكبرى تُتخذ في اجتماعات القادة السياسيين خارج البرلمان، ثم تُنقل إلى النواب لتمريرها.

هذا ما صرح به السيد الحلبوسي في لقاء تلفزيوني مع إحدى القنوات في برنامج حواري، عندما سأله الإعلامي عما إذا كان ينوي الترشح إلى منصب رئيس مجلس النواب، فأجاب بصراحة شديدة أنه لا ينوي الترشح، بل صرح بما يفيد بأنه عازم على ملء كرسيه في مجلس الزعماء (إن صح التعبير)، شأنه شأن الآخرين، مبرراً بأنه كان يمارس دوراً مزدوجاً عند رئاسته للبرلمان: دوراً مع الزعماء ودوراً مع الكتل البرلمانية، فالقرارات التي يوافق عليها الزعماء كان لزاماً عليه أن يقنع كتلهم البرلمانية باتخاذها، وهذا أمر يجده صعباً ومرهقاً له.

لذا نجد أن معظم النواب الموجودين في البرلمان هم من الصف الثاني أو الثالث في أحزابهم، يتلقون التعليمات من قياداتهم الحزبية ولا يملكون حرية التصويت أو اتخاذ المواقف المستقلة، إذ إنهم مجرد "أصوات" تُحصى لتمرير ما اتُّفق عليه في الكواليس.

وهذا ما يطرح سؤالاً مفاده: لماذا يغيب القادة عن مجلس النواب؟

ويمكن عدّ أسباب كثيرة لهذه الظاهرة، منها:

تجنب المساءلة والمحاسبة، فالعضوية البرلمانية تعني التعرض للمساءلة والاستجواب والنقد العلني، والقيادات تفضل البقاء خارج المؤسسة لتتجنب هذه المحاسبة مع الاحتفاظ بالسلطة الفعلية.

التحكم من الظل، فالبقاء خارج البرلمان يمنح القادة مرونة أكبر في المناورة السياسية والصفقات دون قيود الإجراءات البرلمانية أو الرقابة الإعلامية المباشرة.

تجنب الالتزامات اليومية، إذ إن العمل البرلماني يتطلب حضوراً منتظماً ومتابعة للجان والجلسات، وهذا لا يناسب نمط عمل القيادات التي تفضل الاجتماعات المغلقة والتحركات السرية.

الحفاظ على "هالة الزعماء"، فالبقاء بعيداً عن الصراعات اليومية في البرلمان يحافظ على هالة الزعامة والقيادة، بينما الانخراط في التفاصيل البرلمانية قد "يلطخ" صورة الزعيم.

نظام المحاصصة، ففي نظام المحاصصة تكون المناصب الوزارية والقيادية في الدولة أهم من المقاعد البرلمانية، فالقادة يفضلون السيطرة على الوزارات والمؤسسات التنفيذية التي توفر موارد ونفوذاً أكبر.

وهذه الظاهرة أفرزت انعكاسات خطيرة، أبرزها:

ضعف المؤسسة التشريعية، فعندما يغيب أصحاب القرار الحقيقي، يتحول البرلمان إلى مؤسسة هشة عاجزة عن صنع القرار أو التأثير في مجريات الأمور.

انعدام النقاش الحقيقي، فالنواب الموجودون لا يملكون صلاحية الخوض في نقاشات جوهرية أو تغيير المواقف، فهم ملزمون بتوجيهات قياداتهم.

القرارات في الغرف المظلمة، إذ تُتخذ القرارات المصيرية في اجتماعات سرية بين القادة بعيداً عن أعين الشعب والإعلام، مما يفتح الباب واسعاً للصفقات المشبوهة.

فقدان الشرعية الشعبية، فالمواطن يدرك أن البرلمان ليس مكان القرار الحقيقي، فيفقد الثقة بالمؤسسة التشريعية وبالعملية الديمقراطية برمتها.

إهدار المال العام، فنواب لا يملكون قراراً ولا تأثيراً يتقاضون رواتب ومخصصات ضخمة من المال العام، بينما الشعب يعاني من الفقر والبطالة.

تكريس الزعامات، إذ يكرس هذا النظام ثقافة الزعامة الفردية على حساب المؤسسات، ويجعل الديمقراطية مجرد لعبة بأيدي القادة.

تشكيل الحكومات، فمفاوضات تشكيل الحكومات تجري بين القادة في البيوت والمقرات الحزبية والدواوين الزعاماتية، ثم يُستدعى النواب فقط للتصويت على ما تم الاتفاق عليه.

الموازنة العامة، فتوزيع الموازنة والمشاريع يُحسم في اجتماعات القادة، والبرلمان يصادق عليها دون تغيير حقيقي.

القوانين المصيرية، فالقوانين المهمة يُتفق عليها خارج البرلمان في صفقات سياسية، والنواب يمررونها دون نقاش جدي.

الاستجوابات، وحتى استجواب الوزراء، إن حدث، تكون نتائجه محسومة مسبقاً بناءً على التوازنات السياسية بين القادة.

وفي إطار البحث عن الحل، نرى أن الحل يكمن في إعادة المرجعية للبرلمان، من خلال الخطوات الآتية:

إلزام القيادات بالترشح، عبر قوانين تلزم رؤساء الكتل والأحزاب بأن يكونوا أعضاء في البرلمان.

منع اتخاذ القرارات السياسية من خارج المؤسسة الدستورية.

تعزيز استقلالية النواب من خلال قوانين تحميهم من الضغوط الحزبية، وفصل التصويت البرلماني عن الانضباط الحزبي المطلق، ومنح النائب حق التصويت وفق قناعته لا وفق تعليمات حزبه، وضمان الشفافية في اتخاذ القرار.

منع الاجتماعات السرية التي تُحسم فيها القرارات خارج البرلمان من خلال إلزام القادة بالحضور أمام البرلمان لشرح مواقفهم، وبث جميع المفاوضات السياسية المهمة للرأي العام.

المحاسبة والرقابة، عبر محاسبة القادة السياسيين حتى لو كانوا خارج البرلمان، وتفعيل دور القضاء في مراقبة القرارات السياسية، ومنع اتخاذ قرارات مصيرية خارج المؤسسات الدستورية.

تغيير ثقافة الزعامة، من خلال تعزيز ثقافة المؤسسات لا الأشخاص، ودعم إعلام وطني يفضح ممارسات التحكم من الظل، وتربية مدنية على أهمية المؤسسة التشريعية.

وفي الختام، فإن مجلس النواب العراقي لن يكون مرجعاً حقيقياً للقرار السياسي ما دامت القيادات الفعلية تحكم من خارجه. البرلمان الذي يجلس فيه الصف الثاني والثالث بينما يقرر الصف الأول في الغرف المغلقة، ليس برلماناً بالمعنى الحقيقي، بل هو مسرح للديمقراطية الشكلية.

إعادة المرجعية للبرلمان تتطلب أن يكون القادة الحقيقيون داخل القبة، معرضين للمساءلة، مشاركين في النقاش العلني، متحملين مسؤولية قراراتهم أمام الشعب. حتى يتحقق ذلك، سيبقى مجلس النواب العراقي "برلمان اللامرجع"، وستبقى الديمقراطية العراقية اسماً دون مسمى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.