: آخر تحديث
قراءة في تناقضات النظام الإيراني ومستقبل المقاومة:

من تفكك الملالي إلى "فجر الشباب"

5
5
4

لم تعد خلافات الأجنحة داخل النظام الحاكم في إيران مجرد مناكفات سياسية تقليدية، بل تحولت إلى صراع وجودي يهدد بتقويض أساسات النظام من الداخل. ففي ظل ضعف مرشده الأعلى، علي خامنئي، تتكشف فصول جديدة من الفساد والمحسوبية، وتتسارع وتيرة الاتهامات المتبادلة بين كبار المسؤولين، مما يرسم صورة قاتمة لمستقبل النظام الذي يواجه ضغوطًا غير مسبوقة من كل جانب. إن ما نشهده اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو مؤشر على مرحلة "ما قبل السقوط"، حيث يتهاوى جدار الثقة بين مكونات النظام، وينهار أي ادعاء بالتماسك في مواجهة الحقائق المرة.

تجلّت هذه التصدعات بوضوح في التصريحات الأخيرة لعلي لاريجاني، السكرتير الحالي للمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي أطلق تحذيرات مشوبة بالهلع حول "عدم إدراك زعماء السياسة في إيران للمسألة الحساسة الراهنة". لاريجاني لم يخفِ مخاوفه من أن أي حادث جديد قد يدفع الأطراف المتنافسة إلى "القفز فوق بعضها البعض" وإحداث فوضى عارمة، في ظل "حرب مهمة" يتآمر فيها "الغرب بأكمله". هذا الاعتراف الرسمي من مسؤول رفيع المستوى يكشف عن عمق الأزمة الداخلية وعدم قدرة النظام على إدارة خلافاته حتى في أوقات الأزمات الوجودية.

شهدت قاعة البرلمان الإيراني في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) مشهدًا آخر من مشاهد هذا الصراع المحتدم، حيث افتتح محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان، باب الهجوم على الرئيس السابق حسن روحاني ووزير خارجيته السابق، متهمًا إياهما بـ "الإضرار بمسار التعاون الاستراتيجي مع روسيا". لم يكتفِ قاليباف بذلك، بل فتح الباب أمام سيل من الاتهامات التي طالبت بمحاكمة روحاني. لقد تحول البرلمان إلى ساحة لتصفية الحسابات القديمة، حيث طالب أعضاء مثل أميرحسين ثابتي بـ "محاكمة روحاني" وإيصاله إلى "مكانه الحقيقي خلف القضبان"، متهمين إياه بأنه "حطم أرقامًا قياسية كأكثر السياسيين كراهية في إيران". وحتى الملا حميد رسائي، لم يفوت الفرصة ليطالب بإجابات حول "قضايا السرقة العلمية" و"سرقة السجاد النفيس من قصر سعد آباد" التي طالت روحاني.

لم تأتِ هذه الهجمات من فراغ، بل هي رد فعل على محاولات روحاني للظهور مرة أخرى في المشهد السياسي مستغلًا ضعف خامنئي. فقد انتقد روحاني بشدة البرلمان ومجلس صيانة الدستور، متسائلًا عن "قيمة" القرارات التي يتخذونها عندما تكون "تسعون بالمئة من الشعب معارضة لها"، واصفًا القانون الذي لا يعبر عن إرادة الأغلبية بأنه "قانون روحه فاسدة". هذه التصريحات، التي تشكك في شرعية المؤسسات الأساسية للنظام، كانت كافية لتأجيج نيران الصراع. ردت الأذرع الإعلامية للنظام، مثل موقع "عصر إيران"، بوصف هجوم قاليباف بأنه نابع من "عطش دائم للرئاسة"، متسائلة كيف يمكن لرئيس برلمان يمثل "ستة بالمئة فقط من الشعب" أن يهاجم من ادعى الدفاع عن "ستة وتسعين بالمئة".

وفي مؤشر آخر على تآكل سلطة خامنئي، برز مهدي كروبي، أحد قادة الحركة الخضراء، ليهاجم المرشد الأعلى مباشرة. نقل موقع "سهام نيوز" عن كروبي قوله في لقاء مع أبناء مير حسين موسوي: "الشخص الذي وصفنا نحن الاثنين بالمفتنين وعديمي البصيرة، دمر كل شيء في إيران"، مشيرًا إلى أن خامنئي "دعم التزوير والقمع في انتخابات عام 2009"، وأن "مدعي البصيرة دمر الاقتصاد والثقافة والأمن والأخلاق". هذه الانتقادات المباشرة من شخصية داخل التيار الإصلاحي المحسوب على النظام تبرز عمق الشرخ الحاصل.

تضاف إلى هذه الصورة المعقدة مطالبة حسين شريعتمداري، ممثل خامنئي في صحيفة كيهان، المتكررة بمحاكمة روحاني، متسائلًا: "كم خسارة أخرى يجب أن تُكشف ليحاكم حسن روحاني؟!"، واتهمه بالمسؤولية عن "الخسائر الفادحة في التسعينيات" و"دفع باقتصاد البلاد إلى حافة الإفلاس". شريعتمداري، مستندًا إلى توصية خامنئي بـ "عدم كون رواة للضعف"، ربط ضرورة محاكمة روحاني بملفات فساد ضخمة تتضمن سبعمئة ألف شكوى شعبية.

هذه التوجيهات من خامنئي، التي دعا فيها المسؤولين ووسائل الإعلام إلى "عدم الحديث ضد بلدهم" و"عدم كون رواة لضعف بلدهم"، لم تمنع روحاني من الرد بقوة. ففي لقاء مع معاونيه، هاجم روحاني التلفزيون الحكومي ووصفه بأنه "يتبع جناحًا خاصًا وأقلية"، ويعمل على "إثارة الخلاف والكذب والاتهامات" بدلًا من "الوحدة والانسجام الوطني". كما أكد روحاني على ضرورة التفاوض مع العالم، رافضًا مقولة "إما حرب أو استسلام"، مما يشير إلى استمرار الخلافات الجوهرية حول السياسة الخارجية.

لم يتأخر رد الجناح المهيمن، فتم الكشف عن فضائح مالية بحق روحاني ومسؤوليه. كشف ولي الله سيف، الرئيس السابق للبنك المركزي، عن "بيع ذهب البنك المركزي" في عهد روحاني، في حين كشف شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي السابق، عن كذب روحاني بخصوص معرفته بحادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية، مؤكدًا أن "الرئيس كان يعلم من اليوم الأول". هذه الفضائح المتبادلة دفعت شمخاني لاحقًا للتحذير: "كلنا في سفينة واحدة، ومن المؤسف أن يظهر ضعف في السفينة"، معترفًا ضمنيًا بحالة التصدع التي تعيشها مؤسسات النظام.

إنَّ هذه التناقضات والصراعات المتفجرة داخل النظام الإيراني ليست سوى انعكاس لضعف بنيوي عميق، وهي تعد إشارة واضحة على أن "ولاية الفقيه" في مرحلة احتضار. فمع كل فضيحة تنكشف، ومع كل اتهام يُوجَّه، تتآكل شرعية النظام ومصداقيته أمام الشعب الإيراني والعالم. هذا التداعي الداخلي هو ما يمهد الطريق أمام التغيير الحتمي.

وفي غمرة هذا الانهيار التدريجي، تواصل المعارضة الإيرانية، ممثلة في المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية ومنظمة مجاهدي خلق، تعزيز بنيتها واستعداداتها لمرحلة ما بعد النظام. ففي الداخل، تزداد وتتوسع قوة ونطاق عمل "وحدات الانتفاضة" التي تمثل خلايا المقاومة المنظمة، لتكون المحرك الرئيسي للانتفاضات الشعبية. وعلى الصعيد الدولي، تتواصل جهود المعارضة عبر تنظيم المؤتمرات والمظاهرات الجماهيرية، كان إحداها التظاهرة الحاشدة في السادس من أيلول (سبتمبر) 2025 في بروكسل بمشاركة عشرات الآلاف من الإيرانيين، والتي عكست دعمًا دوليًا وشعبيًا واسعًا لمشروع المقاومة.

ويأتي ذلك متزامنًا مع حراك شبابي واسع، حيث عُقد في الخامس والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 2025 اجتماع هام للشباب الإيراني من مؤيدي منظمة مجاهدي خلق والمقاومة. هذا الاجتماع الذي استمر ثماني ساعات، شهد مشاركة السيدة مريم رجوي، الرئيسة المنتخبة من قبل المقاومة الإيرانية، إلى جانب شباب إيرانيين من مختلف دول أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، ومجموعات شبابية من بون ولندن وزيورخ. وقد أكد ممثلو الشباب المشاركون، من رياضيين ومهندسين ومحامين وأطباء وطلاب وأكاديميين وعائلات شهداء، بالإضافة إلى ناشطين من انتفاضتي 2019 و2022 داخل إيران، على إسقاط النظام ورفضهم لدكتاتوريتي الشاه والملالي، معلنين عن التزام جيل جديد بتحقيق التغيير.

إنَّ هذه الجهود المتواصلة تؤكد أن المعارضة ليست مجرد متفرج، بل هي قوة فاعلة تستعد لإطلاق "فجر إيران الجديد"، دولة حرة وديمقراطية، تقوم على إرادة الشعب، بعيدًا عن الاستبداد والفساد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.