: آخر تحديث

ثقافة التزلف... مرض المجتمعات المأزومة بالسلطة

6
6
5

بالرغم من أن النظام السياسي في العراق يُفترض أنه ديمقراطي، وأن حرية التعبير والقضاء المستقل من ركائزه، إلا أن ظاهرة اللوگية - أي التملق والتدليس للمسؤولين - تفشّت بشكل غير مسبوق، حتى غدت سلوكًا عامًا وفنًّا اجتماعيًا تُمارسه شرائح متعددة من المجتمع، والمفارقة أن هذه الظاهرة كانت أقل انتشارًا في العهود الدكتاتورية، حين كان الخوف يبرّر الصمت أو النفاق، بينما اليوم تُمارس برغبة ووعي، وكأنها طريق مختصر للمكاسب والمنافع.

من الناحية النفسية، تنبع "اللوگية" من شعورٍ بالنقص أو بالعجز أمام السلطة، ومحاولة تعويض هذا الشعور عبر التقرب المفرط والتزلف للمسؤولين، في بيئةٍ لم تترسخ فيها قيم المواطنة والمساواة، يصبح المديح المبالغ به وسيلة لإثبات الذات ونيل الاعتراف. أما اجتماعيًا، فالمجتمع العراقي - كسائر مجتمعات المنطقة - ما زال محكومًا بثقافة الهرمية الأبوية التي تقدّس صاحب السلطة، سواء كان شيخ عشيرة أو مسؤولًا حكوميًا، لذلك لم تختفِ مفردات مثل الباشا والزعيم والريس والآغا، بل عادت بأناقة جديدة تُزيَّن بها اللقاءات والاحتفالات، وتُرفَق بولائم وهدايا تُقدَّم كرموز ولاء ووسائل نفوذ.

سياسيًا، تُعدّ "اللوگية" إحدى أدوات إدامة الفساد والزبائنية، إذ تحولت إلى لغة رسمية في العلاقة بين المواطن والمسؤول، فالمتملق يشتري رضى الحاكم، والمسؤول يغذّي هذه الثقافة ليستمد منها شرعيةً زائفة تعوّض فشله في الإدارة أو الإنجاز. بهذا الشكل، تتحوّل الديمقراطية إلى واجهةٍ شكلية تُدار بعقلية الإقطاع، حيث لا مكان للكفاءة ولا لقوة القانون، بل للمجاملات والولاءات الشخصية. ونتيجة لهذا السلوك، فقد المجتمع معاييره الأخلاقية والمهنية، وارتبك ميزان القيم بين الاستحقاق والتقرب، أصبحت الهدايا والولائم والتهاني الرسمية أدوات علاقات عامة تُعطل مبدأ المحاسبة، وتحوّل المسؤول إلى صنمٍ صغير تحيط به جوقة من المصفقين والمادحين، ومع الوقت تُصاب المؤسسات بالشلل، ويُهمّش الأكفاء، ويُكافأ المنافقون.

تبدأ المعالجة من إعادة بناء الوعي الاجتماعي على أساس قيم المواطنة لا التبعية، وترسيخ ثقافة احترام المنصب لا الشخص، والنقد الموضوعي لا التبجيل. كما يجب تفعيل القوانين التي تمنع تضارب المصالح والرشوة المقنّعة بالهدايا والمآدب، والأهم هو إصلاح منظومة التعليم والإعلام لتربية جيلٍ يعتز بذاته ويقدّر الإنجاز لا اللقب.

في النهاية، اللوگية ليست مجرد سلوك بل مرض اجتماعي سياسي، يحتاج إلى علاج طويل يبدأ من تربية الضمير وينتهي بإصلاح النظام، فالأوطان لا تُبنى بالمجاملات، بل بالمواقف الصادقة، ولا تنهض بالشعارات والألقاب، بل بالعدالة والعمل الحقيقي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.