: آخر تحديث

السوداني بين الاتهام والإنجاز

3
3
3

في المشهد العراقي المزدحم بالضجيج، لا يمكن لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن يمرّ بخطواته الهادئة دون أن تتطاير حوله الشكوك. فالرجل الذي دخل بوابة الحكم في لحظة سياسية متوترة، وجد نفسه في قلب معركة لا تشبه تلك التي تُدار بالسلاح، بل بالكلمة والإشارة والتأويل. يواجه استهدافات تُرمى من كل الجهات، بعضها معلن بصوت مرتفع، وبعضها يهمس في الظل.

منذ أن تولّى الرئيس السوداني المسؤولية، بدا وكأنه يمشي على حافة التناقض العراقي المزمن: يريد أن يبني دولة مستقرة وسط طوفان المصالح، وأن يعيد للعراق صورته الطبيعية بعد أعوام من التشوه. لكنه، وهو يفعل ذلك، صار هدفاً لكل من يخشى عراقاً يستعيد عافيته. فالاتهامات تنهال عليه من خصومٍ يتحدثون عن “تغاضٍ عن الفساد” أو “محسوبيات خفية”، فيما تشير التقارير المستقلة إلى أن أغلب هذه القضايا فُتحت بتوجيه مباشر منه، وأنه أول من وجّه بتحقيقات طالت أسماء قريبة من مكتبه.

في خطابٍ أخير، قال الرئيس السوداني إن حكومته تتعرض لـ“عمليات تشويش وخلط للحقائق بالأكاذيب”. هذه الجملة، وإن بدت سياسية في ظاهرها، تكشف عن قناعة أعمق بأن ما يجري ليس نقداً لأداء حكومة، بل محاولة لتقويض سردية النجاح ذاتها. فحين يتحسن التيار الكهربائي بعد عقود من الظلمة، وتنتظم الخدمات في بغداد والبصرة، ويتراجع انقطاع الكهرباء إلى أدنى مستوياته، تُطرح تساؤلات من نوع: “هل هذا التحسن حقيقي أم مجرد تجميل إعلامي؟” وكأن الاعتراف بالتحسن نفسه صار تهمة.

الواقع أن العراق، كما تصفه التقارير الدولية، يعيش مرحلة مختلفة. فبحسب “رويترز” و”لي موند”، استطاع السوداني أن يجعل من بلاده جسراً للتوازن الإقليمي، لا ساحةً للمحاور. وقد تبنّى سياسة “صفر عداوات” مع الجيران، وعقد اتفاقيات استراتيجية مع بريطانيا ودول الخليج ومصر وتركيا، دون أن يتنازل عن استقلال قراره الوطني. أما داخلياً، فقد تحوّل هاجسه إلى إعادة بناء الإنسان قبل البنيان، مؤمناً بأن دولةً بلا عدالة اجتماعية لا يمكن أن تستقر حتى لو امتلأت شوارعها بالإسفلت والجسور.

من يتتبع المشهد يلمس تحولاً في المزاج العام. بغداد اليوم ليست بغداد الأمس؛ هناك عمران جديد يزحف على أطرافها، ومشاريع خدمية واقعية وليست مجرد لافتات انتخابية. مشروعات البنى التحتية انطلقت في الجنوب، وميناء الفاو الكبير يشهد عملاً غير مسبوق، بينما بدأت شركات أجنبية، بينها مصرية وبريطانية، تنافس على فرص الاستثمار في قطاع الطاقة والصناعة. هذه ليست حكايات دعائية، بل وقائع مدعومة بشهادات مراسلين غربيين زاروا العراق وكتبوا بانبهارٍ عن “العاصمة التي تعيد صيغتها”.

ومع ذلك، يبقى الهجوم مستمراً. فحين تنجح الدولة في ضبط الأمن، تُتهم بالقسوة. وحين تنفتح على الخارج، تُتهم بالمهادنة. حين توازن بين القوى السياسية، تُتهم بالانحياز. هذا التناقض ليس جديداً في تاريخ الحكم بالعراق، لكنه يبدو أكثر شراسة اليوم، لأن السوداني جاء من خارج صراع الزعامات التقليدية، بلا غطاء طائفي يحميه، ولا إعلام يجمّله. هو ابن الدولة العادية، وهذا بالضبط ما يزعج خصومه.

في الجوهر، لا أحد يعترض على أن الرجل حقق إنجازات ملموسة، بل إن خصومه يضطرون للاعتراف بها قبل أن يهاجموه. لكن المسألة تتجاوز الفعل إلى الرمز: العراق الذي يُبنى اليوم يعني عراقاً يقلّ فيه نفوذ بعض المستفيدين من الفوضى، وتضمحل فيه مبررات التدخل الخارجي. لذلك، تتكاثر حوله حملات التشكيك، وتُدار من خلف الشاشات والأسماء المستعارة، في محاولة لإرباك سردية النجاح واستنزاف طاقة الرجل السياسية.

ورغم ذلك، يواصل الرئيس السوداني طريقه كما لو أنه يعرف أن الوقت لا ينتظر أحداً. يزور المشاريع بنفسه، يفتتح الجسور، يتحدث مع العمال في مواقع البناء، ويعيد شيئاً من معنى القرب المفقود بين الحاكم والميدان. تلك التفاصيل الصغيرة هي ما يصنع الفارق في بلدٍ تعب من الخطابات الكبرى.

ربما تكون المعركة الحقيقية التي يخوضها محمد شياع السوداني ليست ضد خصومه السياسيين، بل ضد إرثٍ طويل من الشكّ واليأس. أن يقنع العراقيين بأن الدولة يمكن أن تعمل، وأن السلطة ليست بالضرورة فاسدة، وأن الوطن ليس مشروعاً مؤجلاً. هذه معركة تتطلب صبراً أكثر من القوة، وصدقاً أكثر من البلاغة.

إن العراق، وسط هذا الضباب، يخطو ببطء نحو ضوءٍ جديد. والاستهدافات التي يتعرض لها رئيس وزرائه ليست سوى دليل على أن الرجل يمشي في الطريق الصحيح، لأن لا أحد يُرمى بالحجارة إلا الشجر المثمر. ما بين الاتهام والإنجاز، ثمة عراقٌ يحاول أن ينهض، ورئيس يصرّ على أن يمضي ولو وحده، في طريقٍ مليءٍ بالغبار، لكنه على الأقل طريقٌ نحو الغد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.