أربعة انتخابات، نفس الوجوه، نفس الشعارات، ونفس الوهم. في كل دورة انتخابية، نفتح النوافذ لندع أشعة التغيير تدخل، لكن الذي يدخل دائماً هو وجه قديم ببذلة جديدة. نفس السياسي الذي وعدنا بالكهرباء قبل أربع دورات، ما زال يعدنا، ولكن هذه المرة بـ"طاقة شمسية". والفرق الوحيد أن وجهه صار أكثر لمعاناً بفعل المكياج الإعلامي، وشعاراته أكثر فخامة بفعل أموال الشعب.
لقد صار لدينا تصنيف سياسي جديد: المرشح العائد، المرشح الذي لم يغادر أصلاً، والمرشح الذي أُسقط فقط كي يُعاد تدويره لاحقاً!
الناخب العراقي أُشبع من الحكمة التي تقول: "المجرّب لا يُجرّب." لكن في العراق، المجرّب يُرشّح، ويُنتخب، ويُحتفل به، ثم يُعاد طهيه مرة خامسة مع رز بالعدس! نفس الوجوه التي أدارت الوزارات كأنها ورثة أبوية، تعود الآن لتهتف مجدداً بـ"خدمة الوطن"، وكأن فسادهم لم يُسجّل في تقارير النزاهة، بل كان مجرد "خلاف عائلي بسيط مع القانون".
المواطن المسكين يرى هذه الوجوه ويقول: "هاه! بعده موجود؟ ما زال يرشّح؟!" ثم يذهب ويصوّت له، لأن عشيرته قالت، أو لأنه وزّع بطانيات، أو لأن ولده توظّف بعقد مؤقت بفضله. وبعد أن يُنتخب "المجرّب"، يبدأ نفس المواطن بتدوين الشتائم على فيسبوك: "اللهم لا توفّقهم، ما شفنا خير من وراهم!" ونسأله: "مو أنت انتخبتهم؟" فيقول: "صحيح… بس آخر مرة!"
الغرب يعيد تدوير البلاستيك. نحن نُعيد تدوير الوجوه التي سببت الأزمات، وزادت البطالة، ونهبت الموازنات، ثم نمنحها فرصة "أخيرة" لخدمتنا من جديد. وإذا تجرأ أحدهم على أن يسأل: "لماذا يعود هؤلاء؟" يُقال له: "ذول خبرة... يعرفون الدولة!" نعم، يعرفونها تماماً، يعرفون من أين تُنهب، وكيف تُدار بـ"الواتساب"، ومتى يُعلن الحداد على الموازنة المفقودة.
وراء كل مرشح عائد، هناك زعيم لا يشيخ، يجلس في مكتب خشبي قديم، تحيط به خرائط تقسيم المناصب، ويدير اللعبة كأنه لا يزال في المعارضة. هذا الزعيم لا يترشح بنفسه لأنه "فوق الديمقراطية"، لكنه يُدير كل شيء: يختار الوجوه، يوزّع الوزارات، يتفاوض مع السفارات، ثم يُلقي خطبة في الفضائية تقول: "نحن مع التغيير... ولكن الشعب اختارنا مجدداً!"
كل دورة، نقول: "هذه فرصتنا"، وكل دورة، تأتي نفس الوجوه، بعبارات: "خدمة المواطن أولاً"، "معاً نبني العراق"، "نحو عراق جديد". لكن بعد الفرز، نجد أن العراق الجديد هو نفسه العراق القديم، مع صبغ جديد على جدران الوزارات المسروقة.
الخلاص يبدأ من ذاكرة الناخب، من اللحظة التي يقول فيها: "أنا أعرف هذا الوجه... وشبعنا منه!" من القدرة على التمييز بين "تجربة" و"تكرار مملّ"، بين "مستقل حقيقي" و"عميل حزبي مقنّع". من أن نرفض أن نكون كائنات انتخابية موسمية، ونصبح مواطنين يملكون ذاكرة وكرامة.
المشكلة ليست فقط في المجرّب الذي يعود، بل في أولئك الذين يفرشون له السجاد الأحمر كل أربع سنوات، ثم يجلسون على الأرصفة، يشتكون من قلة الخدمات وارتفاع الأسعار. هناك فئة من الناس تنتمي لعقيدة غريبة اسمها "عصمة الزعيم". بالنسبة إليهم، كل ما يقوله المجرّب حكمة، وكل قراراته "فيها مصلحة مخفية ما راح تفهمها". وإذا اعترضت، فالتهمة جاهزة: "أنت مدفوع، عندك أجندة، تشتغل ضد الوطن."
الفساد لا يعيش من فراغ، إنه يتغذّى على أصواتنا، وتصفيقنا، و"لايكاتنا" الساذجة. والأغرب أن بعضهم دافع عن المجرّب كما يدافع عن عشاءه الأخير، كأنه يقول: "آني أعرفه حرامي، بس على الأقل يوزع رز أيام الانتخابات!"
وفي بلد تُباع فيه الكرامة بكيس عدس، لا عجب أن يعود المجرّب، ويعود معه أتباعه بالتصفيق و"الهاشتاكات"!

