لم تكن حلقة برنامج «صنوان» على القناة السعودية التي استضافت الدكتورة هند بنت تركي السديري على القناة السعودية، مجرد استعادة لسيرة إعلامي كبير، بل كانت مساحة صادقة كشفت الجانب الآخر من تركي السديري الإنسان، الذي عاش التحولات الاجتماعية والاقتصادية بصدقٍ وعصاميةٍ لم تغيّر مبادئه، ولم تُربك مسيرته المهنية.
قدّمت هند والدها كما لم نعرفه من قبل، تحدثت عن رجلٍ كان يعيش البساطة بكل معانيها، يؤمن بالمعرفة كجزءٍ من التربية، ويعلّم من حوله حب القراءة بالفعل لا بالكلام.
قالت: إن والدها كان بطريقة غير مباشرة يوفّر لها الكتب بأنواعها ويشاركها الحديث حولها، فزرع فيها حب البحث والفكر من دون أن يشعرها أنه يعلّمها، كان يؤمن أن المعرفة هي الطريق الأول لصناعة الإنسان الواعي، وهي القاعدة التي بنى عليها نظرته للإعلام والمجتمع.
اللقاء الذي أدار تفاصيله الزميل جابر القرني بذكاء وهدوء كشف كثيرًا من الجوانب الإنسانية التي شكّلت شخصية تركي السديري، تحدثت هند عن تأثير المرأة في حياته الأم، والابنة، والدته غرست فيه الحنان والقوة في آنٍ واحد، وابنته التي رأى فيها امتداد فكره ووعيه، نساء شكّلن اتزانه الإنساني، وانعكس أثرهن في قيادته الهادئة وعدالته المهنية.
من هذا الفهم العميق للمرأة، لا نستغرب إبرازه لدور المرأة في العمل الصحفي، بقرارات مهمة منها انشاء أول قسم نسائي متكامل في الصحافة السعودية، وتعيين أول مديرة تحرير في تاريخها، لم يفعلها بدافع التجربة، بل عن قناعة أن الإعلام لا يُدار من زاوية واحدة، وأن حضور المرأة ضرورة فكرية ومهنية!
أتذكّر فرحته حين فازت إحدى الزميلات بجائزة دبي للصحافة، كان فخور بها، وكأن الجائزة له شخصيًا، كان يرى في نجاحها تأكيدًا لرؤيته المبكرة بأن الكفاءة لا تُقاس بالنوع بل بالإنجاز.
تحت قيادته، تحولت جريدة الرياض إلى نموذج مؤسسي ناجح تجاوزت أرباحها مئات الملايين سنوياً، لكنه ظلّ يرى أن النجاح الحقيقي هو أن تصنع بيئةً تحترم الإنسان قبل كل شيء.
ورغم صلابته المهنية، ظلّ تركي السديري وفيًّا لذاكرته مع والدته، أتذكّر يوم واساني في وفاة والدتي، قال لي بحزن لا يُنسى:
«رغم مرور السنين على وفاة والدتي، إلا أن طيفها ما زال معي… لم تغب عن بالي يومًا»، تلك العبارة تختصر رجلاً قويًّا في الموقف، رحيمًا في الطبع، صادقًا في الوفاء!
ذلك هو الجانب الآخر من تركي السديري.. الذي استمدّ إنسانيته من المرأة، واستشرف المستقبل بعقله وضميره، وبقي بعد رحيله نموذجًا نادرًا للإنسان الذي جمع بين الصحافة والصدق في زمنٍ تغيّر فيه الكثير، فالجوانب المشرقة في سيرته كبيرة ورغم اننا ندعي معرفة الكثير عنها، إلا اننا في كل فترة نكتشف جوانب مضيئة أخرى، وما شاهدناه في «صنوان» مثال بسيط على ذلك.

