كيف لمجتمع ما أن يحلّ مشكلاته ونزاعاته إذا لم تكن لأفراده ومكوّناته القدرة على الحوار الحقيقي العميق المثمر؟ إنها الطريق التاريخية المسدودة عينها.
الرحلة الأولى لي في حياتي خارج بلادي كانت إلى مقاطعة كيبيك الكندية. اكتشفت أموراً وكانت لي مشاهدات كثيرة مطلع ذلك الربيع الخارج من الجليد على ضفاف سان لوران؛ هذا النهر العظيم... لكنني اكتشفت، بصورة خاصة، قدرة الناس على الإصغاء. كان المتحاورون بأي مكان في كيبيك سيتي القديمة، في ظل قصر «فرونتوناك»، يجيدون فن الإصغاء... كانوا منفتحين على الرأي الآخر باهتمام وصدق كبيرَين، وكانوا مستعدّين وقادرين على إعادة النظر في أفكارهم وأحكامهم، إذا لزم الأمر، بكل هدوء ومودّة. قلت في نفسي إنّني إذا اضطررت يوماً إلى مغادرة بلادي نحو مكان آخر، فسأختار هذه البلاد.
يحتل الحوار أهمية قصوى في فكر سقراط؛ أبي الفلسفة الغربية، فالحوار هو الوسيلة المثلى لديه للوصول إلى المعرفة؛ لأنه يقود إلى التساؤل ويفتح المجال واسعاً أمام العقل النقدي، إذ يحمل المتحاورين على فحص معتقداتهم، والكشف عمّا يعتريها من أخطاء وتناقضات، فتصبح النفوس قادرة على التفكير الذاتي بمعزل عن المؤثرات السائدة، وعلى إعادة النظر؛ مما يفتح لها آفاقاً جديدة خلاقة توصلها إلى الحقيقة.
كم نحن على طرف نقيض مع هذه النظرة الرفيعة إلى الحوار، التي تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد! فالحوار اليوم في بيئتنا، بعد ألفين وخمسمائة عام على الحوارات السُّقراطية، هو وسيلة انفعالية متوتّرة لا تفضي إلى مكان، وغالباً ما تعمّق الخلافات وتؤجّجها، أكثر مما تخفف منها أو تقرب وجهات النظر. تُرى لماذا؟
من أهم أسباب «الحوار المستحيل» في بيئاتنا المشرقية، أنه بعد أكثر من قرن على زوال السلطنة العثمانية وقيام الدول الوطنية، لم نتمكن من الانتقال من «مجتمع الجماعات» إلى «مجتمع الأفراد - المواطنين»، بل على العكس، منذ ذلك؛ كل شيء يشير إلى أن الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية والقبلية والمناطقية اشتدت قوةً ورسوخاً في المنطقة على حساب «مجتمع الأفراد».
لماذا الحوار في كيبيك سيتي، وفي مجمل الحواضر الغربية، حوارٌ حقاً؟ ولماذا في بيئاتنا المشرقية أقرب إلى الشجار؟ لأن الحوار في تلك الحواضر يجري بين أفراد مكتملين ومستقلين، بينما الحوار في بيئاتنا يجري بين أبناء الجماعات، القائمة جماعاتهم عميقاً داخل نفوسهم، والذين لا يتصورون ذواتهم، ولا يتصوّرهم أحدٌ، خارجها.
لا يمكننا إدراك ذلك إلا في ضوء «الثورة الفردية» في الغرب، التي مع التحولات الكبرى، التي أطلقتها النهضة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر، تفككت فيها شيئاً فشيئاً الجماعات القروية والعائلية والدينية والمناطقية، وتحررّ الأفراد، رجالاً ونساءً، منها، في حركة الانتقال التاريخي من المجتمعات الزراعية والحرفية إلى المجتمعات الصناعية والتكنولوجية. إذا سألت اليوم فرنسياً: «من أين أنت؟»، فلن يفهم سؤالك. أما هذا السؤال فهو الحاضر في بلادنا على الدوام، ليس فقط على حواجز الأمن، بل حيثما كنا؛ لأن السائلين لا يستطيعون التعامل معنا بصفتنا أفراداً، ونحن لا نهمّهم حقاً بصفتنا أفراداً. والسؤال «من أين أنت؟»، هو السبيل الوحيد لمعرفة من أي أمكنة نحن؛ لتحديد الجماعات الطائفية والمذهبية والمناطقية التي ننتمي إليها، والتي، من دون تحديدها، يستحيل التعامل معنا... فنحن، بصفتنا أفراداً، غير موجودين في الوجدان الجماعي.
عندما يحاور فردٌ فرداً في مجتمع الأفراد، يكون الحوار حقيقياً ومجدياً؛ لأن ثمة مسافة داخل الذات بين الإنسان وآرائه. وعندما يعدّل الإنسان أو يغيّر آراءه في عملية الحوار، فإنه لا يشعر بأنه هُزِم أو انتفت مصداقيته أو فقد جوهر ذاته.
أما الحوار بين «أبناء الجماعات» فشأن آخر، فهم «الأفراد/ الجماعات». وأنت لا تحاور فرداً، بل تحاور عبره جماعة بأكملها، لها هويتها وتاريخها وذاكرتها ووجدانها وحاضرها ومشكلاتها وهواجسها ومخاوفها وطموحاتها وطبيعة علاقاتها بالجماعات الأخرى؛ لذلك يكون الحوار بين الأشخاص، في كل مرة، صراعاً حادّاً بين الجماعات؛ أقرب بطبيعته إلى الشجار، وإلى المنازلة الجماعية المصيرية... فالشخص ملتصق بعمق بآرائه؛ فهو هي، وهي هو، وليس من مسافة، ولو ضئيلة، بينهما... وفي أي حال، ليست آراءه حقاً، بل آراء عشرات، بل ربما مئات آلاف الناس من جماعته، الذين يحملون جميعاً هذه الآراء بحرفيتها وكامل تفاصيلها... فـ«الحوار - الشجار» لا يمكن أن يصل إلى أي مكان؛ لأن كل اقتناع بالرأي الآخر فيه، مهما كان منطقياً وموضوعياً، يعدّ هزيمة لاحقة بالجماعة بأكملها، وهو فعل خيانة لها.

