"الشرّ لا يحتاج نوايا، بل إلى أخرق"
في منطقتنا، يكون الخط الفاصل بين الخراقة والشر رفيعًا لدرجة لا يمكن رؤيته. إلا أن التصريحات الأخيرة للسفير توم براك حول المشرق، والمغلّفة بلغة تتميز بـ«الجرأة» و«الاندفاع» و«تخطي المراحل»، ألغت هذا الخط تمامًا. لم يكن هذا الخطاب مجرد كلام عابر، بل إنه يضر بالمصالح الأميركية، ويقوّض سيادة لبنان، ويهدّد أي نظام إقليمي واقعي ومستقر.
إن رسالة براك بسيطة للغاية: التوقف عن الخلط بين «الجهد» و«النتائج»، واختيار «الرابحين»، وزيادة الزخم وتعزيز الازدهار الذي يوحِّد المنطقة ويربط أوصالها، مع تجاوز قرن من «الصدأ الدبلوماسي». لكنها في جوهرها تُمثّل عقيدة الاختصارات: اتفاقيات تفتقر إلى قاعدة شعبية، ترتيبات أمنية لا تتضمن احتكار السلاح، ومشاريع تطبيع تتجاهل مسألة أنّ الميليشيات ليست «تفصيلاً تقنيًا» بل هي نواة المشكلة السياسية. يطلب براك من لبنان أن «ينتقل من بيروت إلى تل أبيب» وكأنّ تسوية الحدود يمكن أن تُغني عن تفكيك النظام المسلّح الموازي، وعن إصلاح المؤسسات المفلسة، واستعادة الثقة العامة. هذه ليست استراتيجية؛ إنها مسرحية.
لنبدأ من لبنان. صورة براك الكاريكاتورية، لبنان الدولة الفاشلة التي يجب أن تقبل بنظام أمني جديد مع إبقاء قبضة «حزب الله» في الداخل اللبناني، ليست وصفة للسيادة بل تدبير يبسط الوصاية الدائمة. لا يمكن «تجنّب الحرب الأهلية» من خلال تطبيع الفيتو الميليشيوي؛ فذلك يعني تكريس صراعٍ مزمن منخفض الحدة إلى جانب حكم الحواجز الأمنية. لقد أكدت مرارًا أنّ الطريق المعاكس هو الصحيح: أن تستعيد الدولة أولاً احتكارها الشرعي للقوة، ثمّ تتنافس الأحزاب تحت سقف السياسة المدنية، لتأتي التفاهمات الخارجية لاحقًا كنتيجة للشرعية الداخلية، لا بديلًا عنها. أما ما نعيشه اليوم فهو عكس هذه المعادلة: «وقف التصعيد» الذي قد ينفجر دوريًا، فيما يتآكل الركن السياسي والمؤسسي.
أما مقاربة براك الديموغرافية («الموارنة في باريس، السنّة في الخارج، والشيعة والفلسطينيون والسوريون هم الأغلبية»)، فليست تحليلًا بل ذريعة للتعامل مع لبنان كفضاءٍ يتجاوز الوطنية إذ يمكن ترتيب مستقبله السياسي فوق رأسه. هذا المنطق يبرّر تمامًا السياسات التي يفترض بواشنطن أن تتفاداها: مكافأة المسلّحين الأكثر تنظيمًا ومعاقبة المدنيين الأشد ضعفًا، وهو نهج كان قد استخدمه باراك أوباما سابقًا لبسط سلطة إيران وتعيين قاسم سليماني بمرتبة المفوّض السامي. كما أنّ هذا المنطق أخطأ في تحديد المصلحة الأميركية الحقيقية: دولة لبنانية سيدة، قادرة على ضبط حدودها، ونزع سلاح الجماعات الخارجة عن الدولة، والتفاوض كسلطة واحدة لا كاتحاد ميليشيات يختبئ خلف واجهات دبلوماسية.
وفي الشأن السوري، تزداد رواية براك عبثًا: «نظام جديد» يسابق الخطى نحو السلام مع إسرائيل إذا ما مُنِح «الزخم». هذه ليست جرأة بل فقدان ذاكرة. لا يمكن القفز فوق المجازر، واقتصاد السجون، ومنظومة الحرب التي نخرت مؤسسات الدولة. إن تسويق ذلك كـ«سلام يديره الازدهار» خدعة لغوية تجعل من المساءلة «عثرة». إنها تصف معاناة الضحايا كمجرد ضريبة طريق على أوتوستراد الاستثمارات. هكذا لا تُبنى الشرعية، وواشنطن تعرف ذلك جيدًا.
ثمّة خطأ جوهري في منطق براك: إنه يجعل التطبيع مع إسرائيل المحور الناظم للسلام بدلًا من اعتباره نتيجة لاستقرار الدول داخليًا. حين تحتكر الدولة امتلاك السلاح وتحظى بموافقة الشعب، يمكنها أن تُطبّع أو تُراجع أو تفاوض من دون أن تنهار مجتمعيًا. أمّا حين تغيب هذه المقومات، يصبح «التطبيع» مسرح أمن هشًّا، قابلًا للانفجار عند إطلاق أول صاروخ. هذا ليس سلامًا بل وهم السيادة. وعندما تلاحق السياسة الأميركية هذا الوهم، تفقد مصداقيتها وتُحبط حلفاءها الذين يحتاجون إلى مؤسسات لا إلى لقطات تذكارية.
اقتراح براك للبنان، تأجيل النقاش حول السلاح، والتركيز على ترسيم الحدود، وترك «الضغط» ينهي ما تبقى، يكرّس المنطق ذاته الذي وَلّد الأزمات. فهو يطلب من الدولة أن تتنازل عن وظيفتها الأساس لصالح الطرف الأكثر مصلحة في إبقاء التوتر «كامنًا»، ويؤجل الإصلاح والمساءلة إلى ما بعد الاحتفال القادم بقصّ الشريط. والأسوأ أنه يعلّم واشنطن أن تخلط بين غياب الحرب ووجود النظام. هكذا تُحضّر الحرب التالية.
كلفة هذه العقيدة على الولايات المتحدة استراتيجية. إنها تحوّل رهانها الطويل على دولٍ تتمتع بالسيادة وقادرة على فرض القانون، إلى صفقة محدودة مع زعماء مسلّحين. إنها تعلّم الشركاء أن واشنطن تشتري الصمت وتبيع المؤسسات. وعندما يفشل رهان «الهدوء»، كما يحدث دائمًا، تجد نفسها أمام فراغ سياسي جديد. إن أرادت واشنطن أن تتميز سياستها في المشرق بالمصداقية، فعليها أن ترفض إغراء التعامل مع الميليشيات كأمرٍ واقع، وأن تعيد المحاكم والموازنات والثكنات إلى صلب استراتيجيتها.
النهج البديل يبدأ من الداخل: دعم الجيش اللبناني لا بوصفه «وزنًا موازنًا» في معادلة السلاح، بل باعتباره الجهة المسلحة الشرعية الوحيدة؛ ربط المساعدات بإصلاحات مؤسساتية قابلة للقياس؛ إقران أي تفاهم حدودي بمؤشرات نزع سلاح قابلة للتحقق؛ وترسيخ أي اتفاق خارجي في تشريع وطني وتوافق داخلي عابر للطوائف. أما في سوريا، فـ«الازدهار» ليس أداة ضغط ما لم يفتح طريقًا، ولو تدريجيًا، نحو المحاسبة وإعادة توحيد سلطة الدولة الشرعية. وفي كل المشرق، يجب أن ينتج التطبيع عن هذه الشروط الداخلية لا أن يكون الدافع لها.
كثيرًا ما يتخفّى الشر في منطقتنا بثوب «الواقعية»: فرضية قدرتنا على استئجار السيادة، وشراء الوقت بالسكوت، واستبدال العدالة بالاستثمار. أما الحماقة فتكمن في الاعتقاد بأن مثل هذه الصفقات تدوم. في لبنان كما في سوريا، القفز فوق إعادة بناء الدولة ليس شجاعة بل تهوّر. والولايات المتحدة، التي تدرك ثمن التهوّر، عليها أن تعلم أيضًا قيمة الحكمة، وأن تتصرف على أساسها.


			
			