الأسبوع الماضي كانت القصة الأبرز لسائحة أجنبية قالت إنها لم تنفق إلا (150) ريالًا طوال فترة إقامتها في منطقة الباحة لمدة أسبوع، مؤكدة أن أهالي المنطقة أغدقوا عليها بكرمهم حتى إنها لم تضطر لصرف أكثر من ذلك المبلغ الزهيد.. والقصة أثارت جدلًا واسعًا، لكنها تكشف في الحقيقة عن سلوكيات متوقعة مع مرحلة الانفتاح السياحي الجديدة التي تعيشها المملكة اليوم.
فالسياحة السعودية ما زالت في سنواتها الأولى، وما زال التعامل المباشر مع السياح الأجانب جديدًا على كثير من المواطنين الذين اعتادوا استقبال الضيوف على أسس اجتماعية لا تجارية. لذلك من الطبيعي أن ينعكس هذا الموروث في شكل كرم مفرط أو ضيافة مجانية تتجاوز المفهوم الاقتصادي للسياحة، دون أن يعني ذلك تهديدًا لها أو إضعافًا لجدواها، بل هو جزء من عملية التكيّف الاجتماعي مع التحول الجديد الذي تشهده المملكة في هذا المجال، وصناعة الهوية السياحية.
وما حدث في الباحة وغيرها هو تعبير عن طبيعة المجتمع السعودي الذي يرى في السائح ضيفًا قبل أن يراه مصدرَ دخل.. وهذه السلوكيات التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى تحمل في جوهرها رسائل إنسانية عميقة، وتُظهر الوجه الحقيقي للمجتمع بعيدًا عن الصورة النمطية المغلوطة؛ فالقصة التي بدأت بتغريدة أو مقطع قصير في منصات التواصل، ربما تكون أبلغ من آلاف الحملات الإعلانية، لأنها خرجت من تجربة إنسانية عفوية.
وإذا كانت الدول تنفق المليارات لصناعة صورة ذهنية إيجابية عن شعوبها، فإن الكرم السعودي يقوم بهذه المهمة بفطرته دون تخطيط أو تصنّع.. فالسائح الذي يعود بانطباع صادق عن تعامل السعوديين وكرمهم، سيحدّث الآخرين عن تجربته ويصبح هو نفسه الحملة الدعائية الأصدق والأبسط تأثيرًا، وربما الأعمق أثرًا في تشكيل الرأي العام الخارجي تجاه المملكة وصورتها الجديدة.
إن بناء هوية سياحية سعودية مميزة لا يقوم فقط على الفنادق والفعاليات والبنية التحتية، بل على التجربة الإنسانية التي يعيشها السائح منذ لحظة وصوله حتى مغادرته.. والكرم وتعامل مواطني البلد جزء أصيل من هذه التجربة، بل ركيزتها الأولى التي تمنح السياحة خصوصيتها وتميزها عن باقي البلدان المنافسة، فالكرم مع السياح قد يتحول إلى هوية سياحية جاذبة للسياح.
وفي الوقت الذي تعمل فيه الجهات المعنية على تطوير التشريعات والخدمات السياحية وتنظيم العلاقة بين مقدم الخدمة والسائح، يظل الكرم السعودي هو الاستثمار الأجمل في بناء صورة ذهنية جميلة عن السعودية ومواطنيها، ولا شك أن تجربة السائحة الأجنبية في الباحة تكررت في كثير من المناطق وستتكرر كثيرًا حتى تتبلور الهوية السياحية السعودية الجديدة.

