: آخر تحديث

الليبرالية الغربية والمعركة مع اليمين المتشدد

2
3
3

أصبحَ معتاداً للجميع في الغرب أن يروْا تجمعاتٍ بشريةً من لونٍ واحدٍ تطالبُ بترحيلِ اللاجئين، وتوسع الاعتياد للقَبول بترحيل من أقاموا في البلادِ وكوّنوا أسراً وأعمالاً وأصدقاءَ. هذه المطالبات ليس دافعُها اقتصادياً، كما يصوّرها المتفائلون، بل لها خلفياتُها الفكريةُ لمجتمعٍ مثالي مُتصوَّر. فَالمحافظون الجددُ (اليمين المتشدد) يمثلون رؤيةً مناقضةً تماماً لليبرالية، وبالتالي يتَّهمونَها بتدميرِ المجتمع الغربي، ثقافياً واقتصادياً ودينياً. وبهذه التُّهمةِ تغدو المعركة مع الليبرالية معركةَ حياةٍ أو موت، وفيها ستجدُ الأقلياتُ نفسَها في ورطة، وبالذَّاتِ المسلمة التي يصبُّ اليمينُ المحافظُ المتشددُ نيرانَه عليها، لاعتقاده أنَّها الأخطرُ على المجتمع المثالي المتصوَّر. وقد تمكَّن اليمينُ المتشدد من تسفيه فكرِ المحافظين الكلاسيكيين الذين يتلاقون مع الليبرالية بأنَّ هدفَ السياسةِ تحصيل أكبر قدر من الحرية للأفراد، شرط أن يتماشى ذلك مع الحفاظ على النظام الاجتماعي. ويشعرُ المحافظون الكلاسيكيون بالحصار، ويرتعدون أمامَ مشهد انصراف ناخبيهم عن أفكارهم، وانحيازهم لليمين المتشدد؛ وفي بريطانيا، كمثال، انسحبَ نواب من حزب «المحافظين الكلاسيكيين» إلى حزب «الإصلاح» (اليميني المتشدد) الذي يركبُ موجةَ الشعبوية للوصول إلى السلطة. ومما يزيد المشهد هزلية أنَّ أفراداً من الأقليات يحتلّون مناصبَ قياديةً في حزب الإصلاح، وبهم يتستَّر الحزبُ لإخفاء بشاعته، والتَّهرب من نقد سياساته العنصرية، والتميزية، والضارة بالمجتمع التعددي.

اليمين المتشدد يحِنُّ إلى الماضي، ويستجلبه في خطابه السياسيّ، لينبّه شرائحَ كبيرة من المتذمرين، والمتضررين أنَّهم مستهدفون ثقافياً، واقتصادياً، وأمنياً، ودينياً، والحل بالاستيقاظ، وبدء رحلة استعادة بلادهم. والماضي مهم في أدبيات التشدد، لأنَّهم يرسمون به للناس صورة عن مجتمع قديم متجانس تحكمه ديانة واحدة، وعادات وتقاليد، واقتصاد جيد، وتميز عالمي؛ مجتمع صلب لا يمكن تشطيره أبداً مقارنة بالمجتمع الراهن المتفرق عرقياً، ودينياً، والمنهوب اقتصادياً، والمستباح أمنياً من الداخل. وبالطبع فإن التهمة جاهزة لليبرالية، لأنَّها رفعت حقوق الإنسان إلى مستوى مقدّس، ومنحت الفرد حقوقاً لا تُمس، وعولمتِ الاقتصاد، وأبعدتِ الدين عن الحياة العامة، والحل بمحاربتها عبر تغليب الجماعة على الفرد، ونزع القدسية عن حقوق الإنسان، ووقف العولمة بأوجهها الاقتصادية والسياسية، وتمكين الكنيسة لتلعب دورها كاملاً.

وقد عبَّر رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، عن ذلك في خطابات عدة، بقوله إنَّ «أوروبا مسيحية»، و«لتذهبِ العولمةُ للجحيم». هذا معناه أنَّ اليمين المتشدد يريد تفكيك الروابط الإنسانية واستبدال روابط دينية بها؛ وبذلك لا تعود ثمة رابط مواطنة بين الوافد والأصيل، لكونهما لا يتشاركان في دين واحد، ولا ثقافة واحدة. ولكيلا نظلم المتشددين كثيراً، فإنَّ الليبرالية تتحمَّل أيضاً قسطاً من اللوم، لأنَّ فكرتها هيغيلية؛ بمعنى أنَّ المجتمعَ في تقدم دائم، وبالتالي أسقطت من حساباتِها احتمال أن يصبح رجعياً؛ أي يستجلب مشاكل غير متوقعة. وكمثال، فإنَّ ثقافة الووك (Wok) وهي من ثمار الليبرالية، تناضل لتغيير الجنس، وإزالة تماثيل لرمزيتها التاريخية، وتقديم اعتذارات عن أفعال ارتكبتها دول أوروبية في الماضي السحيق. هذه الثقافة (الووك) شطرت المجتمع، وأربكت الثقافة التقليدية المغروسة في وجدان الناس، ولطخت سمعة الليبرالية؛ بل ساعدت برفعها «شعار المظلومية» للدفاع عن الأقليات واليمين المتشدد، لأنَّها أبعدت بمطالبها هذه الأنظار عن تكوين السلطة وفشلها، وعن ممارسات الرأسمالية الجديدة المتغولة؛ لذلك استغل اليمين المتشدد هذه الجماعة لتبيان أنَّهم مع الأكثرية (البيضاء) المضطهدة، وأبرزوا خطرها على تقاليد المجتمع، بينما بقيت بالمقابل السلطة بطبقتها الحاكمة، وأصحاب الشركات في مأمن من «الووك» واليمين المتشدد. وهكذا تخاصم الناسُ حول مفهوم الهوية، والجنس، والدين، وتركوا قضايا السلطة، والفقر وتغوّل الشركات، واستغل اليمينُ المتشدد الشعبوي المشهد ليقول إنَّ الحل بيديه: القضاء على العولمة واستعادة المصانع والإنتاج، والقضاء على ثقافة «الووك» واسترجاع التقاليد، وحماية الهوية المسيحية، والتوزيع العادل للثروة. هذا الحل السحري جذاب، ولطالما استهوى أفئدة في الماضي، على يد الفاشية بإيطاليا والنازية بألمانيا، ليكتشف بعدها الموهومون أنهم دمروا أنفسهم وبلادهم.

لا شكَّ أنَّ الليبراليةَ تحتاج إلى تعديل لكي تواكب التقدمَ بمعناها العدالي، والاستقرار المجتمعي، والترسيخ الديمقراطي، وبالذات مفهومها للخير المشترك المتأسس بأنَّ تحقيق كل فرد لسعادته سيؤدي بالتراكم إلى تحقيق السعادة لأكبر عدد من الأفراد في المجتمع. هذا تبيَّن خطؤه في الممارسة، وأدَّى إلى نقيضه، وأصبح ضرورياً تقديم مصالح المجتمع على مصالح الفرد لتحقيق الخير المشترك، مع ترك مساحة معينة للتعبير عن الاختلاف؛ هذه المساحة ضرورية، وإلا فإن المجتمع سيتغول على الأفراد وحرياتهم. أما مفهوم الخير المشترك عند اليمين المتشدد فهو رجعي بامتياز، وهدفه استعادة الهوية التاريخية بالوصل بين الكنيسة والدولة، وإزالة مساحة التعبير للمختلفين، وبالتالي سيادة المجتمع العرقي الصافي، والرؤية الواحدة.

الليبرالية المعدلة أمل، واليمين المتشدد كابوس، والاستيقاظ واجب قبل فوات الأوان.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد