: آخر تحديث

خواطر متحفية في زمن التحدي النووي

1
1
2

كانت البهجة تغمر نفوسنا عندما تصْحبُنا مُدرِّسة التاريخ في «أوتوبيس» مستأجَر إلى متحف لبنان في العاصمة بيروت، وأحياناً إلى بلدة جبيل وبلدة بعلبك وبلدات أُخرى، حيث هناك قلاع وآثار لكل منها وقائع تاريخية طالما عمَّقت معارفنا، فضلاً عن أنها زادت الواحد منَّا انبهاراً بالأقدمين وبالذات «الأجداد الفينقيين» الذين نقلوا التراث عبْر البحر إلى مدن متوسطية. وعندما حدثت حرب السبعينات في لبنان بات المتحف، الذي يحوي أعمالاً مبهرة نحتاً وتجسيماً، مستهدَفاً من «الميليشيات» التي عبثت قتلاً في مناطق من الوطن. وعلى موجات تم ما أمْكن نهْبه من هذه الآثار التي لا تعوَّض وبات الحديث متداولاً عن منحوتات معروضة لدى تجار آثار في الخارج وعن لوحات بيعت بأقل من قيمتها الفنية ولكن النهَّابين لا يعنيهم سوى الحصول على بعض المال. لا سامح الله هؤلاء.

بالتدرج بدأ المتحف اللبناني ومعه قلعة بعلبك ومواقع أثرية عدة تأخذ حقها من الصون والرعاية ثم تحويلها إلى مكاسب سياحية وفنية. لكن ما سُرِق لم يُستعَد وما يحطَّم بفعل النقل غير المنظَّم أمكن علاجه. وعندما ارتأى سفير المملكة العربية السعودية الدكتور وليد البخاري إقامة احتفالية ذكرى اليوم الوطني السعودي في الباحة الملاصقة لمبنى المتحف فإنه كان بذلك يريد إضفاء اهتمام المملكة على لبنان التاريخي، استكمالاً للاهتمام بلبنان المرتبِك سياسياً بين عهد وعهد.

حرب السبعينات، بما حوتْه من عمليات خطْف وقتْل على الهوية واغتيالات وتدمير لبيروت، أوجبت الهجرة إلى حيث الأمان، وشاءت الأقدار أن يكون الاغتراب في باريس. وكانت هذه الإقامة الاضطرارية مناسبة لكي يقف جيل الأبناء على ملامح من التاريخ الفرنسي من خلال متحف «اللوفر» الذي أنشأه الإمبراطور نابليون قبْل 222 سنة بغنائم استولى عليها من متاحف وكنائس وأديرة خلال اجتياحاته دولاً في القارة الأوروبية، مضيفاً إليها آثاراً ومجسمات من نحت مثَّالين ولوحات بريشات رسَّامين عباقرة طالما كان بعضهم يرسم لوحة ويقدِّمها إلى صاحب مقهى مقابِل أن يكون من الرواد والحصول على بعض المال كونهم لا مال لديهم سوى الريشة ويحتاجون إلى ما يسددون أثمان الألوان وإيجار غرفة السكن وزجاجات الخمر على أنواعها. وما لم يغنمه نابليون غَنمه بعض حكام الحُقب اللاحقة، وبالذات في زمن الانتداب الفرنسي على كل من لبنان وسوريا.

وكانت زيارة متحف «اللوفر» تُشعرنا وتُشعر أولادنا بمثل شعورنا في مرحلة التلمذة والزيارات التثقيفية والمعارفية التي كانت تتولاها مُدرّسة التاريخ والجغرافيا لنا. وكما الحزن قد اكتنف مشاعرنا إزاء النهب من جانب كبار الشأن في «الميليشيات» اللبنانية لكثير من محتويات المتحف، فإن السرقة التي استهدفت «اللوفر» في زمن هذا الأوان، أشعرتْنا ببعض الحزن كون باحات هذا المتحف وجدرانه وما في الباحات من مجسمات وعلى الجدران من لوحات وفي داخل حواجز زجاجية من عقود ذهبية وماسية جيء ببعضها من دون وجه حق من حُقب الوصاية والاستعمار والانتداب الفرنسي لدول أفريقية تعيش منذ ثلث قرن حقبة انقلاب العسكر على الحُكم المدني المزكّى من فرنسا، التي كانت قواعدها تحمي وتؤسس لزمن تقطف فيه فرنسا ما في الأرض الأفريقية من معادن أبرزها الذهب ومن نفط وغاز على مساحات رحبة من أراضي القارة. وهذه الغنائم لم تقتصر على نابليون والآخرين الذين انتدبوا، وإنما شملت أيضاً متاحف لندن على أنواعها. ولطالما كان ينتابنا شعور وجداني يعود إلى أن هنالك العشرات من الآثار مستولى عليها خلال الوجود البريطاني انتداباً أو استعماراً لكل من فلسطين والسودان ومصر. وأما المئات من الآثار الآشورية والبابلية وسائر الذين تعاقبوا في الزمن الإسلامي المزدهر على حضور لافت لهم في التاريخ العراقي، فهذه تولَّى أمر وضْع اليد عليها جنود من المارينز وبرضى بغرض التقاسم، جنرالات عملوا في العراق ما لا يُعمل في زمن إسقاط نظام البعث وتشتيت أقطابه بين مسجونين ومشنوقين. ولقد ظهرت هذه التحف الأثرية المسروقة ومعها مخطوطات وخرائط ورسائل دوَّنها الأسلاف الصالحون، في متاجر أميركية مختصة بالآثار. تستعاد هذه الثروة أم تُعتبر غنائم إلى حين يعود العراق قادراً على أن يكون لاعباً حاذقاً في المعادلة الجاري صياغة معالمها للمنطقة.

ويبقى القول إن هذه مجرد خواطر متحفية في زمن السطو المتدرج السُّبل للمتاحف، وأحدث سطوة كانت في زمن الأمن المتطور لمتحف «اللوفر». كما أن هذه الخواطر متلازمة مع أجواء التحدي النووي بين روسيا البوتينية ودونالد ترمب الذي أدخل على الشكل المتحفي حالة جديدة تتمثل في أنه زيَّن جدران قاعة في البيت الأبيض بصور الرؤساء الذين تعاقبوا على ترؤس البيت الأبيض من الأول جورج واشنطن إلى السابع والأربعين دونالد ترمب حاذفاً، مع أن ذلك ليس من أصول الفعل التوثيقي والتاريخي، صورة الرئيس السلَف جو بايدن الذي كلما أتى على ذِكْره ينعته بأوصاف مهينة، ومستبدلاً صورة الرئيس باراك أوباما وواضعاً صورة له (أي ترمب) وهو رافع قبضة يمناه متحدياً محاولة اغتياله أيام جولته الانتخابية مقارعاً الرئيس بايدن.

حمى الله سائر متاحف العالم من صولات وجولات عمليات السرقة المتأثرة بأفلام هوليوودية وابتكارات من وحي الذكاء الاصطناعي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد