: آخر تحديث

روح الكلمة

2
3
3

ليلى أمين السيف

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24-25).

الكلمةُ مسؤولية، قد تفتح بابًا من النور أو تُشعل نارًا من الشر. ولأن اللسان ميزان، ورثنا حكمتين تبدوان متناقضتين، لكنهما في الحقيقة متكاملتان وبينهما ميزان دقيق.

الكلمة اللي تستحي منها بدها: الأولى

الثانية: الكلمة اللي تستحي منها لا تقولها.

فالسكوت عن الأولى ضعف، والسكوت عن الثانية حكمة.

الكلمة التي تستحي من قولها رغم كونها حقّا، أو لأنها تحفظ كرامتك وتضع حدًا لما لا تطيق: يجب أن تُقال بلطفٍ ووضوح.

تستحي أن تقول «لا»، فتقول «نعم»، ثم تتورط.

تخجل أن تعبّر عن احتياج أو رأي، فتسكت، ثم يلومك قلبك.

إذا قلتَ «لا» فقلها بابتسامة،

لتبقى صغيرة، ولا تتحول إلى خصومة كبيرة.

الكلمة الصريحة المؤدبة تريحك، وتريح من أمامك، وتغلق أبواب سوء الفهم..

مواقف من الحياة

صديق يدعوك للسهر وأنت متعب، تستحي من الرفض وتوافق، ثم ترهق نفسك. كلمة بسيطة: «سامحني، أحتاج للراحة» كانت أصدق وأنفع.

مدير يطلب عملًا يفوق طاقتك، فتصمت، ثم تغرق في الضغط. لو قلت: «سأحتاج وقتًا أطول» لانفتح باب للتفاهم.

زوجة تخجل من التعبير عن احتياجاتها، فيتراكم الصمت حتى يختنق البيت. كلمة عتاب رقيقة قد تنقذ الموقف كله.

تعلمت هنا كيف السويدي يعرف متى يقول «لا»، وكيف يقولها بلباقة

يعتذر بابتسامة، يشرح السبب بهدوء، ثم يخرج من الموقف بأقل خسائر ممكنة..

«لا» عنده ليست خصومة ولا قطيعة، بل هي حق طبيعي، بلغة بسيطة

آسف، «لا أستطيع» وينتهي الأمر.

أما العربي، فيريد أن يكون كريمًا، شهماً، محبًّا للغير ولو على حساب نفسه، يتورط في قبول دعوة لا يطيقها، أو وعد لا يقدر عليه، أو خدمة تفوق طاقته، يخجل من أن يخذل الآخر في اللحظة، فيخذل نفسه في النهاية.

أحيانًا نخجل من قول كلمة هي في الحقيقة حقٌّ أو ضرورة.

تستحي أن تقول «لا»، فتقول «نعم»، ثم تتورط.

تخجل أن تعبّر عن احتياج أو رأي، فتسكت، ثم يلومك قلبك. وتتساءل: «لماذا أستحي من قول الحق؟» قلها يا عزيزي، ولكن بذوق.

باليمني يقولون «وري عذرك ولا توري قبحك» هذا في أضعف الإيمان لأنني أعتقد أننا لن نصل لمستوى الأجانب بصريح العبارة. كمان أجدادنا قالوا «تجي على ظهر المستحي أو طلبتها المستحية وأكلتها المشتهية» فالذي يستحي أن يطالب بحقوقه، يضيع حقه والذي يستحي أن يرد على من ظلمه، يتجرأ عليه الآخرون.

والذي يستحي أن يأخذ مقابلًا على جهده، يعاملونه وكأنه متطوع.

والذي يستحي أن يفرض قيمته، يرخص في أعين الناس.

ذلك ليس حياءً، بل ضعفٌ مقنّع. حياء مذموم يجرّ صاحبه إلى الوهن والخذلان، لأنه تنازل عن كرامته بدعوى «الأدب» أو «الطيبة»..

أخيراً لا تستحي من الذي لا يستحي.

أما الكلمة التي تستحي من قولها لأنها جارحة، أو باطلة، أو غيبة، أو سبّ فلا تقلها. فالكلمة نورٌ.. وقد تكون نارًا، بها يُهتدى وبها يُفترى، فاحذر سَطوتها، فكل شرفٍ وخرابٍ يبدأ من كلمة. إنها الكلمة هي جسر نعبر به إلى القلوب، أو حفرة نقع فيها. فقبل أن تتكلم، اسأل نفسك هل سأستحي لو عادت إليّ؟ إذن لا تقلها وابتلعها قبل أن تبتلعك. فالسكوت هنا ليس جبنًا، بل حكمة، لأنه يجنّبك الندم، ويحفظ لك صورتك أمام نفسك قبل الآخرين.

{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} تذكر أن لذلك قال الحكماء:

جراحاتُ السنانِ لها التئامٌ

ولا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ

المثلان لا يتناقضان، بل يكملان بعضهما..

ما تخجل من قوله لأنه باطل أو جارح: اصمت عنه.

ما تخجل من قوله لأنه حق وواجب: قلْه بأدب..

فالسكوت عن الأول نجاة، والبوح بالثاني شجاعة..

وقد لخّص الشاعر الحكيم ذلك بقوله:

احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك.. إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءَه الشجعانُ.

وختامها مسك بقول الأديب الثائر صاحب الكلمة والموقف عبد الرحمن الشرقاوي..

ويحك

أتَعرِفُ ما معنى الكلمة؟

مفتاح الجنة في كلمة.. ودخول النارِ على كلمة وقضاءُ اللهِ هو كَلِمة.

الكَلِمةُ نور.. وبعض الكلمات قبور

الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة.

الكلمة لو تعرف حرمة.. زاد مزخور

وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري.

الكلمة فرقان ما بين نَبىٍّ وبَغىٍّ.

بالكلمة تَنكَشِفُ الغمَّة.

عِيسَى ما كان سِوَى كَلِمَة.

أَضَاءَ الدُّنْيا بالكَلِمات وعَلَّمَها للصّيَادين فَساروا يَهْدُونَ العَالَم

الكلمة زَلْزَلَت الظَّالِم.

الكلمة حِصْنُ الحُرِّية.

إن الكلمة مسؤولية.

وشرف الرجل هو الكلمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد