كم أحاول، مراراً وتكراراً، أن أجد جواباً صادقاً يُهدّئ هذا الضجيج الذي يتردّد في أعماقي كلّما واجهت وجوهاً من لحمنا ودمنا، لكنّها غريبة كأنّها وُلدت من طينةٍ أخرى. نحيا في عالمٍ مكتظّ بالبشر، متنوّعٍ في ألوانه وطباعه، ومع ذلك يبقى فيه لونٌ قاتم لا يزول: لونُ الغرور حين يتلبّس الإنسان فيجعله يرى نفسه أعلى من الآخرين، وأذكى من وجودهم، وأنقى من قلوبهم.
كم من مرةٍ جلستُ في وحدتي، أفتّش في دفاتر الأيام عن تفسيرٍ لهذا الغموض الذي يلوّن العلاقات بلون الفقد. أتساءل: ما الذي يدفع صديقاً قديماً إلى أن يتحوّل فجأةً إلى كائنٍ متعجرفٍ لا يَعرفُ الامتنان؟ ما الذي يُبدّل دفءَ الألفة إلى برودةٍ لا يُفسّرها عقل؟ كأنّ بيننا وبين بعض النفوس عهداً مكتوباً بالحبر السريّ: أن لا نُكمل الطريق إلّا حتى تذبل المصلحة أو يشبع غروره.
عرفتُ أناساً من لحمٍ وابتسامة، ظننتُهم من الصادقين، فإذا هم مجرّد ممثلين في مسرحٍ طويلٍ من النفاق الاجتماعي. يقفون على الخشبة بوجهٍ مطليٍّ بالودّ، وما إن يُسدل الستار حتى ينقلبوا إلى ذئابٍ أنيقةٍ بربطات عنق. أولئك الذين يتحدثون عن الأخلاق وهم أول من يدهسها حين تمسّ مصالحهم، ويتغنّون بالصدق وهم يعيشون بالكذب كما يعيش السمك في الماء.
كم هو مؤلم أن ترى من رعيتهم بيدك، وسندتهم بكلماتك، وقد آمنتَ بقدرتهم على النهوض، فإذا بهم يطعنونك بسكّينٍ من جحودٍ بارد، لا يهتزّ له ضمير. يظنّون أن رفعة الصوت تعني رفعة المقام، وأن التحديق من علٍ يمنحهم سمواً في الوجود. لا يعلمون أن الكبرياء حين يُصاب بالعمى، لا يرفع صاحبه، بل يُسقطه من حيث ظنّ أنه يعلو.
كم هي مريرة تلك اللحظة التي تكتشف فيها أن بعض البشر لا يحتمل رؤية الضوء في غير وجوههم. فإذا أشرق عليك حظٌّ بسيط، شعروا أن الشمس خانتهم. تراهم يبتسمون لك، لكن في عيونهم رماد الغيرة، وفي صدورهم دخان الحسد. يمدّون أيديهم للمصافحة، بينما يخفون في الأخرى خنجر المقارنة، كأنّ نجاح غيرهم إهانة شخصية لهم.
هؤلاء هم المعتوهون من بني جلدتنا؛ لا لأنّ عقولهم غابت، بل لأنّها امتلأت بما يُفسدها: الأنا المنتفخة، والعجز المقنّع، والخوف من أن ينطفئ بريقهم المصنوع على أيدي غيرهم. يعيشون حياةً سطحيةً لامعة، يخدعون بها أنفسهم قبل أن يخدعوا الآخرين. يظنّون أنّ الثرثرة معرفة، وأنّ اللباقة ثقافة، وأنّ المظاهر مرآة الجوهر. وهم في حقيقتهم لا يملكون من النور إلا ما ينعكس عليهم من مرايا الآخرين.
يتحدّثون بلسانٍ متعالٍ كأنّهم أوصياء على الحقيقة. يوزّعون الأحكام بخفّةٍ مريبة، يضعون الناس في ميزانٍ لم يصنعوه، ويقيسون الفضائل بمقاييس مائلة. فإذا نُوقشوا أو وُجّهت إليهم كلمة نقدٍ صادقة، انتفضت غرورهم كما تنتفض النار حين تُمسّ بالماء، فيُبرّرون ويُكابرون ويُشيحون بوجوههم عن مرآةٍ لا تُرضيهم.
أيها المتعاظمون على خلق الله، يا من تفيضون حقداً وتنفثون كراهيةً في وجوه البسطاء، أما آن لكم أن تواجهوا أنفسكم بصدق؟ أن تنظروا في أعماقكم لتروا كم أنتم صغار أمام الحقيقة؟ ما الذي يدعوكم إلى التكبر، وأنتم لم تبلغوا من المجد إلا صوره المشوّهة، ولا من الإنسانية إلا قشرتها الرقيقة؟ ألا تعلمون أنّ الكِبر لا يرفع الإنسان، بل يُجرّده من إنسانيته قطعةً قطعة، حتى يغدو ظلّاً يمشي بغير قلب؟
إنّ ما يقتل أرواحكم ليس فشلكم، بل إنكاركم له. وما يُدمّركم ليس جهلَكم، بل ادّعاؤكم المعرفة. أنتم كمن يضع التاج على رأسٍ مثقوبٍ بالفراغ، ويظنّ أن الذهب يُغني عن الفكر، وأن المظاهر قادرة على ستر خواء الباطن. لكنّ الزمان لا يرحم، فكلّ قناعٍ يُسقطه الزمن حين تهبّ عليه ريح الصدق.
تذكّروا، يا أبناء الزهوّ الموهوم، أنَّ العظمة الحقيقية لا تحتاج إلى إعلانٍ ولا إلى تصفيق. العظمة سكونٌ في النفس، وتواضعٌ يفيض من القلب دون أن يطلب اعترافاً من أحد. هي أن تعرف حدودك فلا تتجاوزها، وأن ترى في نجاح الآخرين امتداداً لجمال الحياة لا تهديداً لوجودك.
أريحونا من مسرحياتكم، فقد تعبنا من التمثيل، ومن تصفيقٍ لا يُسمع صداه إلّا الفراغ. دعوا الوجوه تعود إلى بشريّتها، ودعوا الأقنعة تسقط. فالحياة قصيرةٌ على أن تُهدر في سباقٍ من الغرور. ولتعلموا أنّ من يتعاظم على الناس، إنما يشيّد حول نفسه سوراً من العزلة، وأنّ أعظم العقوبات ليست في فقد المكانة، بل في أن تبقى أسيراً لصورتك الكاذبة إلى الأبد.


