يرى توماس سويل أنَّ الدولة ليست عدوّاً للثروة ولا صديقةً لها بطبيعتها، بل هي أداة يمكن أن تكونَ حاضنة للثروة أو مدمّرة لها، حسب مدى احترامها للقانون والمؤسسات. فحين توفّر الدولةُ بيئة مستقرة تحمي الملكية وتضمن العدالة وتكافئ الكفاءة، تصبح رافعةً وداعمة للثروة. أمَّا حين تضعف مؤسساتها، ويستشري فيها الفساد، وتتحوَّل مركزَ امتيازات، فإنَّها تقتل روحَ المبادرة وتخنق الخيال.
ويضرب سويل أمثلة حيّة من التاريخ الحديث:
الكوريتان الشمالية والجنوبية تمثلان مختبراً مثالياً لفكرته. فهما شعب واحد ولغة واحدة وثقافة مشتركة، لكن النظامين الاقتصاديين والسياسيين جعلا مصيرهما متناقضاً. كوريا الجنوبية تبنّت اقتصاد السوق والانفتاح، فأنشأت صناعة متقدمة وصادرات عالمية، بينما غرقت كوريا الشمالية في الفقر والمجاعة نتيجة لاقتصادها المركزي الموجّه.
الشيء نفسه حدث بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية. الأولى اعتمدت اقتصاد السوق وازدهرت بسرعة، بينما الأخرى، الخاضعة للنظام الاشتراكي، ظلت تعاني الركود والفقر حتى لحظة الوَحدة.
كذلك سنغافورة وغانا اللتان استقلّتا في الفترة نفسها تقريباً: سنغافورة، بفضل قيادة لي كوان يو، بنت دولة قانون وكفاءة وجودة، بينما غرقت غانا في الفساد والمحسوبية والشعبوية.
أما تجربة تشيلي، فتمثل مختبراً قاسياً لفكرة سويل عن العلاقة بين الحرية الاقتصادية والسياسية. في السبعينات، حاولت حكومة سلفادور أليندي تطبيق اشتراكية ديمقراطية من خلال تأميم المصانع والمصارف، ورفع الأجور وتجميد الأسعار باسم العدالة الاجتماعية. لكن خلال عامين فقط انهار الاقتصاد، وامتلأت الشوارع بالطوابير، واختفت السلع. بعد الانقلاب عام 1973، جاء نظام بينوشيه العسكري، الذي استعان بمجموعة من الاقتصاديين الشباب المتأثرين بمدرسة شيكاغو، ليقوم بإصلاحات جذرية: خصخصة الشركات، تحرير التجارة، تثبيت العملة، وتشجيع الادخار. في البداية كانت التكلفة باهظة، لكن خلال عقد واحد تحولت تشيلي واحدةً من أكثر الاقتصادات استقراراً في أميركا اللاتينية. يقول سويل: «الفقر لا يخلق الحرية، ولا العدالة تنمو على الأرض الخاوية. كان على تشيلي أن تختار أولاً أن تنجو، ثم تناقش شكل حريتها».
وفي المقابل، يقدم مثال كوبا التي مثلت النقيض التام. بعد ثورة كاسترو عام 1959، وعد النظام بعدالة اجتماعية مطلقة، وحقق إنجازات لافتة في التعليم والرعاية الصحية، لكنه صادَر الحوافز الفردية باسم المساواة. حينما يتقاضى العامل المجتهد والعامل الكسول الأجر ذاته، يختفي معنى الجهد، وتنهار روح العمل. يقول سويل: «هذه ليست مشكلة اقتصادية، بل مأساة أخلاقية. حين يُلغى التفاوت المشروع، يُقتل الطموح». خلال عقدين، أصبح الاقتصاد الكوبي يعتمد كلياً على دعم الاتحاد السوفياتي، وحين انهار الاتحاد في التسعينات، دخلت الجزيرة في مجاعة اقتصادية خانقة.
بهذه الأمثلة، يوضح سويل أن المشكلة ليست في وجود الدولة، بل في دورها. فالدولة التي تتحول من حكم محايد إلى طرف يمنح الامتيازات ويسحبها بناء على القربى والعلاقات، تغيّر طبيعة الثروة نفسها من نتيجة للعمل إلى نتاج للنفوذ. حينها يفقد العمل معناه، ويبدأ الناس في البحث عن الطرق المختصرة. في مثل هذه المجتمعات، يصبح الفساد ليس انحرافاً عن النظام، بل هو جزء منه.
ويقول سويل إن المجتمعات التي تُخنق فيها روح المنافسة تفقد أهم شرط لبناء الثروة: الثقة بالمستقبل. فحين لا يرى الفرد رابطاً بين الجهد والمكافأة، يختفي الحافز للإنتاج، ويتحوّل الاقتصاد دائرةً من الاعتماد والجمود. عند هذه النقطة، لا يعود الفقر مسألة موارد، بل مسألة خيال؛ فالثروة قبل أن تكون مصانع وبنوكاً هي جرأة على الفعل والمبادرة والتجديد.
ينتقد سويل أيضاً التفسير الآيديولوجي للفقر، سواء من اليسار أو اليمين.
اليسار يراه نتيجة ظلم بنيوي، وكأن الأغنياء لا يملكون إلا لأنهم سلبوا الآخرين. هذا التفسير يلغي الزمن والتراكم والمعرفة والعادات، ويختزل التاريخ في صراع ظالم ومظلوم. أما اليمين، فيفسر الفقر بالكسل أو ضعف الإرادة، متجاهلاً أن الأفراد يولدون داخل ثقافات ومؤسسات تصوغ رؤيتهم لأنفسهم وللجهد والمكافأة.
الفقر، في نظر سويل، ليس مؤامرة خارجية، بل نتيجة تفاعل معقد بين الثقافة والبيئة والدولة والتاريخ.
المشكلة أن السياسة، بدوافعها الانتخابية والشعبوية، تقدم دائماً وصفات سريعة تحت شعار «العدالة الاجتماعية» و«دعم الفقراء»، لكنها لا تمس الجذور. تعطي المال ولا تغيّر العقول. وهكذا يعود الفقر بعد كل دورة سياسية.
ويضرب مثالاً ببرنامج الحرب على الفقر في الولايات المتحدة الذي أطلقه الرئيس جونسون في الستينات. فقد أنفقت الحكومة مليارات الدولارات على الإعانات والسكن والرعاية الصحية والتعليم، لكن بعد عقدين، لم تختفِ الطبقة الفقيرة، بل ازدادت اعتماداً على الدولة. الدعم، كما يقول سويل، تحوّل إعاقةً: خلق طبقة واسعة تعيش على الإعانات بدل العمل. النوايا الطيبة لا تجلب بالضرورة النتائج الجيدة.
ويرى سويل أن المساعدات الدولية تسير في الاتجاه نفسه. فالهبات التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة لم تخرجها من فقرها، بل أضعفت قدرتها على الإصلاح الذاتي. فحين يحصل مجتمع على المال مجاناً، يتعلم الاعتماد لا الإنتاج.
فالمساعدات، حسب الكاتب، «تُبقي الفقراء على قيد الحياة، لكنها لا تخرجهم من الفقر».
الفقر، كما يراه، ليس نقصاً في المال، بل في الثقة بالزمن. الفقير الذي لا يثق بالغد لا يدخر ولا يستثمر. وإذا جاءت المساعدات لتسد الفجوة بين الجهد والنتيجة، فإنها تقتل الشرط النفسي لبناء الثروة: الإيمان بأن العمل والكد يغيّران الواقع.
من هنا، يدعو سويل إلى إعادة تعريف المساعدة: ليست تلك التي تمنح المال، بل التي تبني المؤسسات والتعليم والثقة بالمستقبل. فالثروة لا تُصنع بالمنح، بل بالقيم والمؤسسات التي تحفّز على الإنتاج.
ويلخص فكرته الأساسية بالقول: «لا توجد أمة محكوم عليها بالفقر. القوانين، والثقافة العملية، والمؤسسات القوية قابلة للتكرار».
الفقر هو الطبيعي عبر التاريخ البشري والخروج منه وتشكيل ثروة هو الأمر الجديد. من الخطأ السؤال: كيف تشكل الفقر؟ لكن الصحيح هو: كيف تشكلت وتولدت الثروة في مجتمعات بعينها؟ ليس عن طريق الإعانات ولا العدالة الوهمية ولا توزيع الثروة. كل هذه الحلول، رغم رومانسيتها، عقَّدت المشكلة بدل أن تحلها.
في النهاية، لا يرى توماس سويل أن الثروة لغز غامض أو هبة من السماء، بل نتيجة لمسار طويل من بناء المعرفة والعادات والمؤسسات. فالأمم التي نجحت لم تكن أغنى بالموارد، بل أذكى في التعامل معها، والأمم التي فشلت لم تكن أفقر بالضرورة، بل أضعف في بناء الثقة بين الجهد والمكافأة. لا يوجد تفوق عرقي وجيني. الأمم متساوية، ولكن الفرق أن بعضها عرف كيف يشكّل معرفة متراكمة، وأخرى لم تنجح وهو يقدم لها الطريقة الصحيحة حتى لو كانت صريحة أو حتى جارحة.

