في مقالٍ نُشرَ في صحيفة «فايننشال تايمز» تحتَ عنوان «لا تلقوا باللوم على اليسار في معاداة السَّامية»، حاولَ كاتبه البريطاني إدوارد لوس تفسيرَ تصاعدِ الكراهية ضد اليهود في الغرب باعتبارها نتاجاً لخطابِ اليمين الشعبوي الأميركي، مستشهداً بارتفاع الأصوات اليسارية ومنها انتخاب زهران ممداني عمدةً لنيويورك.
إلَّا أنَّ لوس تجاهلَ حقيقةً أعمقَ وأكثر خطورةً، وهي أنَّ الخطر الحقيقي على اليهود اليومَ لم يعد من خارج إسرائيلَ، بل هو نابعٌ من قلبِ سياساتها، تلك السّياسات التي انتهجتها الحكومةُ الحالية وحوَّلتِ الهويةَ اليهودية من قيمة إنسانيةٍ إلى أداة للهيمنة، ومن ذاكرةٍ للاضطهاد إلى ذريعةٍ لتبرير اضطهاد الآخرين، والتَّحقيقُ الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» أمس، حولَ الانتهاكات داخلَ المعتقلات الإسرائيلية، ومنها معتقلُ سدي تيمان، يؤكد أنَّ إسرائيلَ أصبحتْ دولةً متطرفةً، تمارس الاضطهادَ وتجسّد الصورةَ التي طالمَا حاولَ اليهودُ في العالم محوَها عن أنفسِهم.
الدَّمارُ الذي حلَّ بغزة وصور الأطفال تحت الأنقاض، أعادَا إلى الأذهان مشاهدَ الاضطهاد التي عاشَها اليهودُ في أوروبا، لكن بأدوارٍ مقلوبة، ومع كلّ جولة من جولات الحرب، تتآكل التعاطفاتُ القديمةُ وتختلط في نظرِ النَّاس حدودُ الدين والسياسة، فيصبحُ اليهوديُّ في باريسَ أو نيويوركَ هدفاً لغضبٍ لم يصنعه، لكنَّه يدفع ثمنَه، هكذا، وباسمِ الحماية، تخلق إسرائيلُ تهديداً جديداً لليهودية نفسِها، وتجعل من الدين الذي حملَ رسالة العدالة غطاءً لممارسات تنقضها.
لقد حوَّلت تل أبيب تهمةَ «معاداة السامية» من مظلة أخلاقية لحماية الضُّعفاء، إلى سلاح سياسيّ تشهره في وجهِ كلّ من يطالب بالعدالة، وبدلاً من أن تكون دفاعاً عن الكرامة الإنسانية، أصبحت تهمةً جاهزةً لإسكات الضمير العالمي. وبقدر ما استخدمتها إسرائيلُ لتبرير سياساتها، فقدت هذه التهمةُ معناها وقوتَها، حتى باتت في نظر كثيرين وسيلةً للتهرب من المساءلة لا موقفاً أخلاقياً، وهكذا، حين تُسكِتُ إسرائيلُ صوتَ الحق، فهي لا تدافع عن اليهود، بل تدفعهم إلى مزيدٍ من العزلة وفقدان التعاطف الدولي.
وفي الوقتِ الذي حاول فيه لوس حصرَ المشكلة في الولايات المتحدة، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً مهمّاً من قلب تل أبيب، رصد تحولاً داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، فالإسرائيليون بدأوا يعيدون اكتشافَ الكلمة التي غابت عن قاموسهم منذ اغتيال إسحق رابين، إذ احتشدَ آلاف المتظاهرين في ميدان رابين يهتفون «نعم للسلام... لا للعنف». وقالَ يائير لابيد، زعيمُ المعارضة، إنَّ «السعيَ للسَّلام فعل يهودي أصيل»، فيما أكَّدَ الجنرال السابق يائير غولان أنَّ «السلام ليس ضعفاً بل شجاعة»، أصواتٌ كهذه تعبّر عن وعي جديد في الداخل الإسرائيلي بأنَّ استمرار التَّطرفِ لا يخدم لا اليهود ولا الإسرائيليين، وأنَّ حكومة نتنياهو بمسارها الحالي تجرُّ البلادَ إلى عزلة أخلاقية وسياسية خانقة.
إسرائيلُ اليوم تقف عند مفترق طرق، فاليهود الذين رأوا فيها وطناً للأمن، باتوا يشعرون أنَّ سياسات حكومتهم تضعف هذا الأمنَ وتفقدهم احترامَ العالم، وعشرات الآلاف يغادرونها، ومن في الداخل يتساءلون إلى أين تمضي الدولةُ التي وُلدت على فكرة السلام، لقد صارَ واضحاً أنَّ التطرفَ لا يصنع أمناً، وأنَّ الكراهية لا تَبني وطناً، وإن كانت هناك رسالة يجب أن تصلَ إلى مَن يبرر هذا العنف والتطرف، فهي أنَّ إسرائيل إذا أرادت فعلاً أن تكون وطناً آمناً لليهود، فعليها أن تكفَّ عن جعلهم وقوداً لحروبها، وأن تصغيَ لصوت مَن قالَ بوضوح «السلام ليس ضعفاً، بل خلاص».

