: آخر تحديث

محاذير هدنة قصيرة في السودان

2
3
3

قصصُ الجرائمِ التي تُرتكبُ في مدينة الفاشر يَشيبُ لهولِها الوِلدان. صورُ الأقمار الاصطناعية تؤكّدُ استمرارَ القتل الجماعي في الفاشر، وفقَ كلية ييل للصحة العامة. روايات الهاربين من المدينة تتحدَّث عن أبشعِ جرائم الإبادة، وعن الجثث في الطرقات، والإعدامات على الهُويَّة العرقية.

وبينما انتفض العالمُ، بعد سبات، إزاءَ هول معاناة المدينة، وارتفعت أصوات كثيرة تطالب بمحاسبة «قوات الدعم السريع»، بل وتصنيفها منظمةً إرهابية، نشطت في المقابل تحركات رافقتها ضجة تبدو مدروسة لمحاولة صرف الأنظار عن جرائم الميليشيا في الفاشر وبارا، بل ولمنحها فرصة لتحويل جرائمها إلى مكاسب سياسية. ففي خضم اختلاط الحسابات والرؤى، هناك من يريد إبقاء «الدعم السريع» ورقة تفاوضية، وبندقية تستخدم لتقويض السودان واستقراره، اليوم، وغداً إن أمكن.

هناك ازدواجية في المعايير حينما نرى إصراراً على مبدأ نزع سلاح الميليشيات وحصر السلاح في يد الدولة حينما يتعلق الأمر بدول أخرى، لكن عندما يتعلق الأمر بالسودان ترى من يحاول الإبقاء على سلاح الميليشيا، بل ومساواتها بالجيش.

كيف يستقيم أن تدينَ «الدعم السريع» وممارساتها في القتل والتنكيل والإبادة في الفاشر، ثم تطلب في الوقت ذاته توقيع هدنة معها، وتمنحها اعترافاً، وتضعها على قدم المساواة مع الجيش؟

إنَّ سجل جرائم الحرب التي ترتكبها هذه القوات ليس وليد اللحظة، ومن يعتقد أنها ستتغير لمجرد توقيع هدنة معها، يخطئ الحسابات. فالتنكيل والعنف العرقي جزء من عقيدتها منذ نشأتها.

المطلوب هو خطوات جادة لمحاسبة «قوات الدعم السريع» على انتهاكاتها، وتصنيف ما تقوم به ضمن جرائم الإرهاب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، بدلاً من مكافأتها على ما ارتكبته في الفاشر بهدنة إنسانية.

من الذي جوّع الفاشر أصلاً؟ لقد ظلت المدينة محاصرة أكثر من 18 شهراً، تعرضت خلالها للقصف المتواصل الذي لم تسلم منه المستشفيات والمساجد ومعسكرات اللاجئين، ومنعت «قوات الدعم السريع» بشهادة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية وصول الغذاء والدواء للمدينة وسكانها الذين اضطروا لأكل علف الحيوانات، عندما اشتد عليهم الجوع. طوال تلك الفترة، ظلت «قوات الدعم السريع» تمنع وصول قوافل الإغاثة، وتنهب وتدمر شاحناتها، وتقتل كل مواطن يحاول الخروج لجلب بعض الطعام لأهله المحاصرين. لم تستجب لقرار مجلس الأمن الذي صدر خصيصاً في يونيو (حزيران) 2024، لإنهاء حصار الفاشر والسماح بمرور المساعدات لسكانها، وواصلت رفضها لكل نداءات الأمم المتحدة اللاحقة من أجل هدنة قصيرة، وافق عليها الجيش، لإيصال الإغاثة للمدنيين المحاصرين وسط ظروف قاسية.

اليوم، بعد أن سقطت المدينة، ترتفع الأصوات للمطالبة بهدنة «إنسانية»، وتسارع «قوات الدعم السريع» للانخراط في محادثات بشأنها!

الحقيقة أن الفاشر عانت وما تزال تعاني بسبب «الدعم السريع»، وهرب منها معظم سكانها، ومن بقي منهم، يعاني الآن أبشع أنواع التنكيل، ويواجه الإبادة التي وثقتها فيديوهات مسلحي الميليشيا الذين كانوا يتباهون بجرائمهم. والهدنة لن تكون إلا استراحة قصيرة تستجمع فيها «الدعم السريع» قواها، وتحصل على المزيد من الإمدادات العسكرية، قبل أن تهاجم مدناً أخرى. فمنذ محادثات منبر جدة في بدايات الحرب، كانت «الدعم السريع» تستغل الفرصة ولا تلتزم الاتفاقات، بل تعد للانقضاض على مدن ومواقع أخرى.

فتح مسارات الإغاثة مبدأ مطلوب وبشكل دائم، وليس كإجراء وقتي. فالإغاثة حق إنساني، ولم يكن مقبولاً أصلاً السماح لأي طرف باستخدام التجويع سلاحاً في الحرب. والحديث اليوم عن فتح هذه المسارات لا ينبغي ربطه بأي خطوات مرحلية، أو مكاسب سياسية. فلتبقَ مسارات الإغاثة مفتوحة بحيث تصل إلى كل المواقع بما فيها الفاشر وبارا والأبيض وبابنوسة والنهود وغيرها.

أما الحديث عن مفاوضات إنهاء الحرب فهو شأن آخر يجب أن يكون واضحاً في أهدافه وشروطه، ولا ينبغي اتباع سياسة الغموض بشأنه.

السودان لا يحتمل تكرار تجارب المفاوضات والاتفاقات التي تعيد إنتاج الميليشيات المسلحة من خلال الحلول المنقوصة، وأسلوب المكافآت بالمناصب والمكاسب. هذه السياسة فشلت تماماً ويدفع السودان الآن أفدح الأثمان نتيجتها.

أي حل حقيقي لا بد أن يؤدي إلى تفكيك وتسريح «قوات الدعم السريع»، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، ووضع أسس عسكرية وأمنية صارمة لأي عملية دمج مستقبلية. هذا هو الطريق الذي يمكن أن يقود لإنهاء ظاهرة الجيوش الرديفة، ويضع السودان على طريق استعادة الأمن والاستقرار، ويهيئ المناخ لسلام دائم، واستعادة المسار المدني الديمقراطي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد