محمد ناصر العطوان
لا تخف، لن أصرخ في وجهك، فقد جرّبتُ الصراخ بما يكفي... واكتشفتُ أنه لا يُسمَع إلا في الأفلام الوثائقية.
أنا التي صعدتُ السلّم، ثم اكتشفتُ أنه كان مائلاً.
أنا التي كتبتُ بيانات، وألقيتُ خطباً، وابتسمتُ في الصور، ثم عدتُ إلى البيت لأعدّ الغداء.
ليس تناقضاً، بل تدريبٌ على العيش في أكثر من زمن في اليوم الواحد.
هل سمعتَ باسم درية شفيق؟
أكيد سمعت... ولا يهم إذا لم تسمع... فأنت غالباً لم تسمع!
كانت تشبهني في شيءٍ ما، كانت تظن أن النوايا وحدها تغيّر التاريخ... تحدّت السلطة، كتبت، صعدت، ووقفت على درجٍ من الكتب... لكن التاريخ رجلٌ سريع الملل، لا يحب النساء اللواتي يرفعن أصواتهن أكثر مما يرفعن صواني القهوة، أو يكشفن عن (مفاتنهن) في السوشل ميديا.
لذلك أسقطها التاريخ من الدور العاشر!
والعجيب أن السقوط لم يكن صاخباً، بل هادئاً، كما تسقط ورقة في شتاءٍ مؤدّب.
أنا أيضاً سقطت، لكن سقطتي كانت رقمية... سقوط في التعليقات، في المقارنات، في الإعجابات التي تشبه الإعجاب المؤجّل...
لا أحد يعرفك، لكن الجميع يريدك أن تذهب لعيادات التجميل... لتنفخ وتشفط.
أصبحتُ أتزيّن بالفلاتر وأتخفّى وراءها... مثلما كانت هي تتخفّى وراء الكتب.
الفرق الوحيد أن سقوطها كان من شرفة، وسقوطي أنا من شاشة.
هل تعرف ماذا قالوا لي حين تذمّرت؟
قالوا «الحرية لا تُعطى، بل تُؤخذ».
ضحكت.
لأن الحرية التي تُؤخذ تصبح عبئاً، والحرية التي تُعطى تشكّ فيها... نحن نريد حرية لا تُؤخذ ولا تُعطى... نريد فقط ألا نُسأل عنها كل يوم.
كلما قرأتُ عن درية شفيق، شعرتُ أن الزمن يُعيد نفسه بشكل كوميدي.
لقد أغلقت عليها الصحف باب الصمت، ونحن نغلق على أنفسنا أبواب الصمت الذكي.
نكتب منشوراً طويلاً عن المساواة، ثم نحذفه خوفاً من التعليقات... نصرخ في مساحة عامة، لكن ميكروفوننا متصل بسماعة الأذن نفسها.
أنت يا من تكتب الآن،
هل تظن أنني امرأة واحدة؟
أنا كل امرأة بدأت حكايتها ببطولة وانتهت بغسيل الصحون... أنا كل صوت كان صادقاً ثم تم تلميعه حتى صار شعاراً... أنا من قالت «لا».. فاتهموها بالغرور، ومن قالت «نعم» فاتهموها بالتنازل.
أنا من أردتُ فقط أن أكون إنساناً، لكن البشرية كانت نادياً مغلقاً يملكه رجال ومديرو مكاتب سافلون.
ولا أريد اعتذارك.
ولا أريد مدحك.
أريد فقط أن تتذكر أن الأم التي كانت تصلي بعد أخبار التاسعة، هي نفسها المرأة التي كانت تريد أن تخرج من النشرة لتقدّم الخبر بنفسها... لكن أحدا لم يترك لها المايكروفون... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.

