في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004، طوى الموت صفحة رجلٍ لم يكن مجرّد قائدٍ سياسيّ، بل رمزًا لقضيّةٍ بأكملها. رحل ياسر عرفات، المعروف بـ«أبي عمّار»، تاركًا وراءه إرثًا تتقاطع فيه المأساة بالعظمة، والثورة بالحلم. بقي اسمه مرادفًا لفلسطين، وبقيت كوفيّته البيضاء والسوداء علمًا يرفرف في الذاكرة كلّما ذُكر الوطن الأسير.
من الميدان إلى العالم
وُلد عرفات في القدس عام 1929، وبدأ نضاله الوطنيّ في خمسينيّات القرن الماضي حين أسّس مع رفاقه حركة «فتح». وفي عام 1969 تولّى رئاسة منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فوحّد فصائل الشعب الفلسطينيّ تحت رايةٍ واحدة، وجعل من المنظّمة الممثّل الشرعيّ الوحيد لشعبه.
كان أوّل من نقل القضيّة الفلسطينيّة من خنادق المقاومة إلى منابر الأمم المتّحدة. وفي خطابه التاريخيّ عام 1974 قال عبارته التي خلدها التاريخ:
«جئتكم أحمل غصن الزيتون في يد، وبندقية الثائر في يد، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.»
بهذا التوازن بين الكفاح والدبلوماسية، نجح في جعل فلسطين قضيّة إنسانيّة عالميّة، لا مجرّد صراعٍ حدوديّ أو نزاعٍ سياسيّ.
أوسلو… بوّابة الأمل
حين وقّع اتفاق «أوسلو» مع إسحق رابين عام 1993، بدا كأنّ الحلم القديم يقترب من التحقّق. فقد وُلدت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، وعاد عرفات إلى أرض الوطن بعد عقودٍ من المنفى.
وفي عام 1994 نال جائزة نوبل للسلام إلى جانب رابين وشمعون بيريز، اعترافًا بجهده لإطلاق مسار سلامٍ يقوم على مبدأ الدولتين. ومع كلّ التحدّيات التي واجهته، ظلّ متمسّكًا بخيار السلام العادل دون التخلّي عن الثوابت الوطنيّة.
وحين حاصرته إسرائيل في مقرّ المقاطعة برام الله عام 2002، رفض مغادرة الأرض التي أحبّها، وقال عبارته التي دوّنها التاريخ:
«يريدونني أسيرًا أو طريدًا أو قتيلاً، وأنا أقول لهم: شهيدًا شهيدًا شهيدًا.»
غياب الزعيم واستمرار الطريق
ترك رحيل ياسر عرفات فراغًا كبيرًا في الوجدان الفلسطينيّ، لكنّ المؤسّسات التي بناها وُلدت لتستمرّ. تولّت القيادة الفلسطينيّة من بعده مسؤوليّة الحفاظ على الهويّة الوطنيّة، والعمل الدبلوماسيّ المتّزن لحماية الشعب من ويلات الحرب والانقسام.
لقد حاولت السلطة الفلسطينيّة أن تصون ما تبقّى من أرضٍ ومن حلم، وأن تُبقي شعلة الدولة الفلسطينيّة حيّة في المحافل الدوليّة، بعيدًا عن دوّامة الدم والدمار. وبالرغم من الصعوبات، ما زالت متمسّكة بخيار الدولة والكرامة والسلام العادل، مستندةً إلى الإرث السياسيّ الذي أرساه مؤسّسها الأوّل.
ماذا لو بقي عرفات حيًّا؟
سؤالٌ يُطرح كثيرًا: لو بقي ياسر عرفات حيًّا، كيف كان سيكون المشهد الفلسطينيّ اليوم؟
ربّما كان سيواصل جمع الصفوف بروح القائد التاريخيّ، ويحافظ على التوازن بين المقاومة والسياسة، بين السلاح والكلمة. فقد امتلك كاريزما نادرة وقدرة على مخاطبة العالم بلهجةٍ تجمع بين العناد الوطنيّ والعقلانيّة الدبلوماسيّة.
لكنّه، وهو في مثواه، ترك لأبنائه من بعده طريقًا واضحًا: لا تفريط بالحقّ، ولا استسلام للعنف، بل نضالٌ مستمرّ بالحكمة والصبر حتى تتحقّق الحرّيّة المنشودة.
إرثٌ خالد
يبقى ياسر عرفات رجل المرحلة التي جمعت بين الثورة والدبلوماسية. أخطأ حينًا وأصاب كثيرًا، لكنّه لم يتنازل يومًا عن القدس أو عن حقّ العودة. كان يرى في فلسطين وطنًا أكبر من الجغرافيا، وأقدس من السياسة.
رحل جسده، لكن صورته بقيت في ذاكرة كلّ فلسطينيّ، وفي ضمير كلّ عربيّ حرّ. لقد مات عرفات وفي قلبه القدس، المدينة التي أحبّها ولم يطأها حرًّا، لكنّه أورثها للأجيال أملًا لا يموت، وعقيدةً عنوانها الكرامة.


