عندما تكون الجهة التي تدعم فئة باغية من البشر المدججين بمختلف الأسلحة الفردية المتاحة ضد مجتمعٍ أعزلٍ وآمن هي نفس الجهة المستمرة في نهجها الذي بدأت به، فهذا يعني أن الحوادث الراهنة في المنطقة المستهدفة من قِبل أدواتها آتية في سياق الحوادث السابقة، وأن ممارسات اليوم هي امتداد لممارسات الأمس، طالما أن الهدف الأساس من وراء هذه الممارسات كان في جوهره إركاع أبناء ذلك المجتمع المسالم، المجتمع الذي لم تستطع أدوات الجهة الداعمة للمسلحين اقتلاعهم من الأرض مع كل ما مورس بحقهم من الفظائع والانتهاكات منذ ثماني سنوات.
إذ منذ بداية السيطرة على الشريط السوري الشمالي، عومل السكان الأصليون في منطقة عفرين معاملة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فكما هو حال المستوطنين في إسرائيل مع امتلاكهم لكل أنواع الأسلحة، وإطلاق اليد في ما يفعلونه بالذي بقي من الفلسطينيين المتجذرين بأرضهم، فعلت الفصائل المسلحة والمستوطنون الذين جُلبوا معها إلى المنطقة بالاتفاق بين تركيا وروسيا ونظام الأسد الأمر ذاته مع السكان الأصليين في عفرين، إذ من حق المستوطن حمل السلاح، بينما لا يحق لابن منطقة عفرين حمل السلاح لحماية نفسه وسط الفوضى والفلتان الأمني، والسلاح الوحيد المسموح حيازته من قبل عدد ضئيل جداً من السكان الأصليين هو (الجفت) أي بندقية صيد الطيور، كما أن من حق المسلحين والمستوطنين التجول في عموم المنطقة، بينما يُعامل ابن المنطقة بالشك والريبة إذا ما زار قريباً له في قرية أخرى، ومن حق المسلحين والمستوطنين أن يُفلتوا كالعجماوات في حقول أبناء المنطقة، فيما لا يحق لأصحاب الحقول منع تلك الكائنات المسلحة من العبث بمحاصيلهم.
وهذا الأمر بقي مستمراً منذ بداية الغزو أي في عام 2018 إلى نهاية عام 2024، أي بعد سقوط نظام البعث العربي الاشتراكي في دمشق، ولأن سقوط النظام لم يكن في بال الكثير من اللاعبين الدوليين، فقد امتعضت بعض الأطراف الدولية من سقوطه، بما أن سقوطه أثّر سلباً على مشاريعهم العسكرية والسياسية في سوريا، ولأن سقوط النظام يستلزم تغيير الاستراتيجيات على الأرض، فإن هذا التغيير لم يكن لصالح من كان في نيته تثبيت المستوطنين المجلوبين من باقي المحافظات السورية في المناطق التي زُرعوا فيها بعد تهجير أهلها.
لذا فإن تلك الجهة التي كانت تعمل بكل قوة على تمكينهم، كما هو الحال مع مشروع الحزام العربي المقام في محافظة الحسكة، لم يرق لها التغيير المفاجئ الذي حدث على الأرض بعد انهيار النظام، بما أن دفعات كثيرة من المجلوبين تركوا أماكنهم في الشمال السوري وعادوا إلى مناطقهم، بالمقابل عادت دفعات لا بأس بها من أبناء المنطقة الأصليين إلى قراهم بعد دفع الإتاوات للفصائل المسلحة لقاء استلام بيوتهم أو ممتلكاتهم.
وهو ما يشير إلى أن حوادث قنص الفلاحين وأصحاب الأملاك في الآونة الأخيرة في منطقة عفرين ليست عفوية، إنما هي امتداد للممارسات السابقة بحق أبناء المنطقة منذ لحظة تعرضها للغزو والسيطرة عليها في عام 2018، ولكن الوتيرة العنفية الجديدة والتي أسفرت عن قتل الفلاح شكري أحمد أوسو (70 عاماً) من قرية "كفرزيت" بتاريخ 5/11/2025، وبعدها بيوم واحد أي في 6/11/2025، قتل الفلاح محمد أحمد درويش من قرية "برج عبدالو" على أيدي مسلحين مجهولين، وقبلها قيام عدد من المسلحين في يوم الأحد بتاريخ 02/11/2025 بإطلاق النار على المواطن جاسم أحمد من أهالي بلدة "نسرية" في ناحية جنديرس، وسلب جرارٍ زراعي يحمل شوالات الزيتون.
حيث جاءت الاستهدافات المباشرة في أعقاب ما حصل في قرية "أنقلة" التابعة لناحية "شيخ الحديد"، حين قام المواطن حسين حسن خلو وابنه مصطفى (12 عاماً) بحراسة أرضه، وأثناء قدوم اللصوص المسلحين بالكلاشنكوفات الذين فتحوا النار على الأب والابن بعد أن كُشف أمرهم، دفع ذلك الأب إلى رمي اللصوص بسلاح صيد الطيور لإبعادهم عن حقله، ولكن بدلاً من ملاحقة اللصوص المسلحين بالكلاشنكوفات، أقدم عناصر الأمن العام يوم الأحد بتاريخ 19/10/2025 على اعتقال المدافعين عن حقلهم!
إلا أن أبعاد القضية ليست متعلقة بالشخص المدافع عن زيتونه فحسب، إنما وخشيةً من تعميم هذه الثقافة، أي ثقافة الدفاع عن الممتلكات لدى عموم أهل المنطقة، جاء الرد حسب أبناء المنطقة من قِبل الجهة الداعمة للمسلحين والمستوطنين باستهداف الفلاحين وأصحاب الحقول بالرصاص الحي، لكي يرتعب الباقي من أصحاب كروم الزيتون ويكفوا عن حماية حقولهم، وذلك حتى يتركوا منتجاتهم عرضة للسرقة من قبل المسلحين والمدنيين الذين جلبوا بهدف الاستيطان، كآلية من آليات دعم المتبقين من المسلحين في المنطقة لئلا يغادروها ويبقوا جاثمين بكامل نتانتهم السلوكية على صدور أبناء المنطقة المحرومين من حق الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم.
أما إلى أي مدى ستنجح مرامي تلك الجهة التي لا تمت خطتها للقيم الإنسانية بصلة، فهذا الأمر مرتبط بعوامل خارجية كتشابك أو تضارب مصالح الدول الفاعلة في سوريا، أما ميدانياً فالأمر متوقف على عاملين أساسيين: الأول هو تغيير أبناء المنطقة لأسلوب المجابهة مع المعتدين والتعامل بحذاقة ومسايسة مع هذه الفئة المدعومة من قِوى لا قدرة لأهل المنطقة على مجابهتها، باعتبار أنهم الحلقة الأضعف على الأرض ومستهدفون من قِبل الأدوات ومن يدعمها منذ سنوات، والعامل الثاني متعلق بحكومة دمشق وقدرتها على إخضاع تلك الجهات المسلحة وبسط سيطرة أجهزة الدولة على المنطقة عوضاً عن الفصائل المنفلتة، والتي وفق المراقبين العسكريين ما تزال تتلقى أوامرها من جهاتٍ لا تمت للدولة والوطن بصلة.
في الأخير، صحيح أن أبناء المنطقة الذين لازموا ديارهم في ظل سطوة وطغيان فريق كبير من شبيحة الثورة ذاقوا المرارة أكثر مما تجرعوها على أيدي جلاوزة النظام السابق، إلا أن ما يؤلم المتشبثين بأرضهم أكثر ليس مخططات الجهة التي جلبت الأوغاد وسلّطتهم على الناس وأفلتتهم في ربوع منطقتهم، ولا الممارسات القميئة لقادة وعناصر الفصائل المنفلتة التي تتلقى أوامرها ممن أوجدها وليس من دمشق، إنما الذي ينثر الملح على جروح الأهالي ويؤلمهم أكثر هو تخوينهم المستمر من قِبل ثلة من المتكئين على أرائك "السوسيال" في أوروبا أو رهطٍ من الممددين في ظلال اليافطات في شمال شرق سوريا، حيث أنهم بدلاً من تخفيف العبء عمن بقي ملازماً بيته ومعتصماً بأرضه لا يكفون عن تخوينهم في الطلوع والنزول واتهامهم دون وجه حق بالتعامل مع السلطة المتحكمة برقابهم!


