منطق أقلقني مؤخرًا، حول موضوعٍ كتبتُ عنه أكثر من مرة في السابق. كنت أظنه مجرد مغالطاتٍ يروّج لها بعض الجهلة، لكن أن أراه وأسمعه في مناظرة بين أحد المشايخ الأفاضل وأحد أساتذة الجامعة، فقد أصابني كثيرٌ من الذهول والدهشة!
في تلك المناظرة، تحدّث الأستاذ الجامعي عن واقعنا المؤلم: كيف أن الغرب يصنع كل شيء، بينما نعيش نحن على ما ينتجه الآخرون، حتى غدونا أمةً تستهلك أكثر مما تُنتج.
لكن المفاجأة كانت في ردّ الشيخ، الذي قال بكل جرأة – حتى لا أقول صفاقة – إن هذا من نِعَم الله الكبرى على المسلمين، إذ سخّر الله لهم الغرب ليعمل ويخترع ويفكر عنهم، فينعمون هم بالراحة، وتلك علامة الإيمان والتقوى!
هذه الجملة ليست مجرد رأيٍ شاذ، بل تجسيد لفكرٍ مقلوب، يرى في الخمول تفوقًا، وفي العجز فضلًا، وفي اعتمادنا على غيرنا دليلاً على أن الله يحبنا! إنها ذهنيةٌ تواكلية مدمّرة، تتلبّس لبوس الدين، وتحوّل الركود إلى قدرٍ مقدّس.
أولاً: تناقض صارخ مع القرآن والسنة
القرآن الكريم لم يكتفِ بالدعوة إلى العمل، بل جعله جزءًا من العبادة والإيمان:
-
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" (التوبة: 105)
-
"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود: 61) – حيث "استعمركم" تعني: جعلكم عُمّارًا لها
-
"ولقد مكّنّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش" (الأعراف: 10)
والسنة النبوية زاخرة بالتأكيد على العمل والإتقان:
-
"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"
-
"ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده"
هذه النصوص لا تترك مجالًا للَّبس: العمل عبادة، والإتقان فريضة، والإنتاج واجب حضاري.
أما تحويل "تسخير الأمم" إلى دليل على النعمة، فهو تحريف للمقاصد، ومصادرة لجوهر الدعوة الإسلامية، التي جعلت الإنسان مستخلفًا في الأرض بالعمل، لا بالكسل.
ثانيًا: بين "التوكّل" و"التواكل"
الخلط بين هذين المفهومين هو أصل البلاء.
التوكّل في الإسلام عملٌ مسبوق بسعي: أن تبذل جهدك وتترك النتائج لله.
أما التواكل فهو ترك العمل وانتظار المعجزة، وكأن الله موظف عند الكسلان.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن جلسوا في المسجد يَدّعون العبادة ويطلبون الرزق بلا سعي:
"لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة."
(رواه ابن أبي الدنيا في "التوكل")
لو كان "تسخير الآخرين" نعمة، فكيف نفسّر أن المسلمين قادوا الحضارة العالمية لقرون، وكانوا روّادًا في:
-
العلوم: الخوارزمي، ابن سينا، ابن الهيثم
-
الصناعة: التقنيات الزراعية والهندسية
-
التجارة: شبكات التجارة العالمية من الصين إلى أوروبا
فكيف يمكن أن يُنسب إلى الإسلام فكرٌ يبرّر القعود ويحتفل بالعجز؟
ثالثًا: بين "اعمل لدنياك..." والمعنى الحضاري للتوازن
المقولة الشهيرة:
"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا"
وإن لم تثبت كنص نبوي صريح، إلا أن معناها يتّسق مع روح الإسلام التي تُوازن بين العبادة والعمران، بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع.
فـ"العمل للدنيا" ليس نقيضًا للدين، بل امتداد له، كما فهمها العلماء المعاصرون من روّاد الفكر الإسلامي المستنير، مثل مالك بن نبي ومحمد إقبال والشيخ محمد الغزالي، الذين أكدوا أن التخلف في العالم الإسلامي ليس قدرًا مقدّسًا، بل نتاج لكسلٍ فكريٍّ وتواكلٍ ميتافيزيقيّ، فرّغ النصوص من مقاصدها الحضارية.
رابعًا: الخطر الحضاري للفكر التواكلي
إن أخطر ما في هذا الخطاب أنه يقتل الطموح في النفوس باسم الإيمان.
فعندما يُقنع الشيخُ جمهورَه بأن الله سخّر الغرب لخدمتنا، فلن يبقى هناك حافزٌ للبحث أو التصنيع أو الابتكار.
بهذا المنطق، يتحول المسلم إلى مستهلك أبدي، يعيش على إنتاج غيره، ويحتفل بتخلفه كدليل على الرضا الإلهي!
وهنا مكمن الخطر: فالمجتمعات لا تنهض بالدعاء وحده، بل بالفكر والعلم والعمل والإبداع.
يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة (دار الفكر، دمشق 1986)، وهو كتابٌ قرّرته على طلبتي عندما كنت أُدرّس مادة "الفكر السياسي للمملكة العربية السعودية" في الجامعة:
"كل أمة لا تُنتج، لا يمكنها أن تكون حرة."
وهكذا، فإن استمرار هذا الفكر يضعنا أمام:
-
تكريس التبعية: تحويل المسلمين من فاعلين في التاريخ إلى مجرد مستهلكين.
-
ضياع الهوية: الأمة التي لا تُنتج معرفة تفقد هويتها وحضورها.
-
ترسيخ الاستبداد: المجتمعات المستهلكة أسهل حكمًا واستبدادًا من المجتمعات المنتجة.
خامسًا: نحو فكرٍ جديد يعيد التوازن المفقود
ما نحتاجه ليس مجرد الرد على مثل هذه الأقوال، بل إعادة بناء الوعي الديني على أساس علمي وحضاري يحقق التوازن في قراءة النصوص:
-
التكامل لا التناقض: المقولة الصحيحة "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا..." تؤسس لتوازن حقيقي.
-
العمل الدنيوي عبادة: حين يكون في إطار القيم الإسلامية، فهو عبادة وخدمة للأمة.
-
الإتقان شرعيًا: إتقان العمل ليس مجرد كفاءة، بل طاعة لله ورسوله.
إن "الفكر المتقد" الذي نحتاجه اليوم هو فكر المسؤولية، لا المبرر، والعمل لا الوعظ.
هو فكرٌ يرى في كل يدٍ عاملةٍ صلاةً، وفي كل فكرةٍ نافعةٍ صدقةً، وفي كل إنجازٍ دنيويٍ عبادةً متصلةً بسماء المعنى.
من عبادة الكسل إلى عبادة الإتقان
لا يمكن لأمة أن تنهض وهي تُمجّد التخلف وتتبرر للتبعية.
الأمة التي أنتجت أعظم الحضارات في التاريخ، لا يمكن أن ترضى بأن تكون مجرد "زبون" للآخرين.
الخطر الحقيقي ليس في تخلفنا التقني، بل في تخلفنا الفكري الذي يُحوّل التخلف إلى فضيلة، والتبعية إلى نعمة!
إن تحديث العقل المسلم، وإعادة قراءة النصوص في ضوء مقاصد الشريعة في العمران والتنمية، هو المدخل الحقيقي للخروج من أزمة التخلف والتبعية.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم."

