: آخر تحديث

غزة المنطقة المحظورة في التاريخ

1
1
2

تعيش اليوم غزة حالة فريدة، لا تشبه حرباً كاملة ولا سلاماً حقيقياً، وكذلك الضفة الغربية، بل تقع بين فكّين ضاريين، اللاسلم واللاحرب، كذلك لبنان، وهي منطقة رمادية من التاريخ، لا تنتمي إلى الحرب النظامية، ولا إلى التهدئة المستقرة، هذه الحالة المعلقة جعلت من القطاع الذي يقطنه أكثر من مليونين من البشر نموذجاً مأساوياً لتجمد الصراع، وتآكل الأمل، في ظل الحصار والانقسام والدمار المتكرر، تحوّلت غزة إلى رمز الانتهاك الإنساني البشع، وساحة صراع مفتوح، تستنزف الجميع، الفلسطينيين والعرب، حتى القوى الكبرى.

حينما تغلق كل أبواب السياسة، تبقى الشعوب رهينة الجغرافيا، وتصبح المناطق مثل غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان مجمدة، لا يسمح لها بالتقدم، ولا بالتحرر.

منذ عام 1948 كانت الأراضي الفلسطينية دائماً ضحية موقعها بين الأسوار، بين إسرائيل التي ترى فيها إطاراً أمنياً، وبين سلطة فلسطينية منقسمة، لا تريد أن تجدد نفسها، وبين عالم عربي يحتار كيف يتعامل مع هذه المأساة، وقوى أخرى في المنطقة تريد أن تستفيد من هذا الصراع عن بعد.

هي مثل صارخ على ما يسميه المؤرخون «الفراغ السياسي القاتل» حين تتوقف حركة التاريخ، ويمتنع الحلّ فيعلق المجتمع في حالة انتظار دائمة، تفرخ هذه الحالة تفكيراً سياسياً مشعوذاً، في انتظار إنقاذ من خارج قدرة الإنسان.

الحالة ليست جديدة على التاريخ، فالعالم شهد حالات مشابهة، كمثل شبه جزيرة كوريا بعد الحرب الكورية 1953 التي انتهت باتفاق هدنة دون سلام دائم، وظلت الحدود مشتعلة والعداء مستمراً إلى يومنا هذا، ومليون من اللاجئين ينتظرون المصالحة التي لم تأتِ، وربما لن تأتي.

مدينة برلين قسمت بين الشرق والغرب طوال الحرب الباردة، حيث عاش الناس خلف جدار، بين الشك والخوف، وكانت المدينة رمزاً للعجز الدولي، حتى جاء المخرج من الخارج، بتغير نظام الاتحاد السوفياتي.

أما المنطقة الأخرى فهي منطقة كشمير بين الهند وباكستان، تجمد فيها الصراع لعقود، وبين وقت وآخر كانت القنابل تتفجر، فأهلكت السكان، وضاعت التنمية، وتحول الإقليم إلى ساحة صراع، حتى يومنا هذا.

غزة اليوم تحمل كل ملامح تلك التجارب، حدوداً مغلقة، واقتصاداً مشلولاً وانقساماً داخلياً وبشراً مطحونين. تدويل الصراع يفقده روحه الوطنية والإنسانية، في ظل انقسام حاد بين القوى الفلسطينية، والبقاء في المكان للسلطة الفلسطينية، والبقاء في الزمن القديم لـ«حماس».

في ظل هذا الجمود يعيش أهل غزة بين الفقر والعزلة والتبعية، فانخفضت معدلات التعليم والرعاية الصحية إلى أدنى مستوياتها، وخسر جيل كامل فرصة التعليم، لا يعرف إلا الحرب والدمار، ولا يرى في العالم سوى حصار وبطالة وتهجير، وتحول الإبداع الفلسطيني من البناء، إلى محاولة البقاء، من الحلم بالدولة إلى البحث عن الكهرباء والماء والدواء، وتآكلت الطبقة الوسطى، التي كانت ركيزة الاستقرار، وتراجع مفهوم الدولة لصالح الفصائل، فأصبح المشروع الوطني الفلسطيني نفسه مهدداً بالانكماش إلى حدود جغرافية ضيقة، وذاكرة مجروحة، وتضحيات كبرى.

لم تبقَ مأساة غزة داخلها، بل تسربت إلى الجوار العربي سياسياً وإنسانياً، فالعرب في أقطارهم المختلفة يتعاطفون مع تلك المأساة، يتذمرون في داخلهم، وتحدث بينهم انقسامات حادة أيضاً، إما في العواصم العربية، أو في داخل المجتمع الواحد، تجاه عناوين «المقاومة» و«التطبيع».

كل ذلك أضعف القضية الفلسطينية في وجدان جزء من الشارع العربي، بعد أن تحولت من رمز للتحرير إلى رمز للانقسام، ودفعت بعض الدول العربية إلى الانكفاء على مصالحها الأمنية، وتدخلت قوى إقليمية لدفع أجندتها باسم القضية. واستمرار هذا الوضع جعل العواصم الكبرى من واشنطن إلى لندن إلى باريس تفقد حماسها لأي مبادرة جادة. تدير الصراع، ولكن لا تستطيع أن تقوم بحلّه، ما يعني أن المحركات الخارجية التي كانت تضغط نحو التسوية، بالتعاون مع عرب الاعتدال، فقدت زخمها، حتى التعاطف الذي تراكم إبان العامين الماضيين بردت وتيرته، وبدأ الجمود يتحول إلى قدر سياسي دائم.

الخطر الحقيقي ليس في الدمار المادي فقط، بل في تآكل المعنى، حين يولد الطفل الفلسطيني وهو لا يعرف سوى الطائرات والملاجئ والرصاص، ويتحول السلام في ذهنه إلى وهم، والعدالة إلى شعار فارغ. ومع مرور الزمن، تصبح الذاكرة الجمعية للفلسطينيين مشبعة بالمرارة، ويتحولون من بشر إلى قنابل بشرية، وتتحول غزة من قضية إلى قدر، ومن زمن المقاومة إلى زمن المأساة.

غزة لا تحتاج إلى شفقة، ولا إلى مؤتمرات، بل إلى رؤية شجاعة، يقودها الفلسطينيون موحدين، تخرجها من هذا البرزخ التاريخي. الدرس من برلين وكوريا وكشمير وغيرها يؤكد أن حالة اللاسلم واللاحرب أخطر من الحرب نفسها، لأنها تقتل ببطء. كسر هذا الجمود يتطلب من العرب أن يستعيدوا دورهم، لا كشهود على المأساة، بل كصناع المستقبل الجديد، للقول للفصائل كفى تشتتاً، وعليكم بالوحدة، كي تعاد للإنسان الفلسطيني كرامته، وللتاريخ حركته.

آخر الكلام... لا الحرب كانت خلاصاً، ولا السلام كان وعوداً صادقة، وحدها الإرادة الفلسطينية الموحدة قادرة على صياغة المعنى الجديد للحياة بعد الرماد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد