: آخر تحديث

وَأَحْسَنُ أخْلاقِ الرّجَالِ التَّفَضُّلُ

1
1
1

قَالَ أَبُو مَنْصُورِ الثَّعَالِبِي:

عَليُّ بنُ الجَهْم فِي الْمُحدَثِينَ كَالنَّابِغَةِ فِي الْمُتَقَدِّمينَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّابِغَةَ شَبَّهَ النُّعْمَانَ مرّةً بِاللَّيْلِ وَمرَّةً بِالشَّمْسِ، وَشَبَّهَ عَليُّ نَفسَهُ بِالسَّيْفِ المُغْمَدِ، وَمِنْ عَجِيبِ شِعرِهِ فِي الْجَوْدَةِ وَالبَرَاعَةِ، قَولُهُ:

هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ وَلِـلـدَّهْـرِ أَيَّـامٌ تَـجُـوْرُ وَتَــعْــــدِلُ

وَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الجَمِيلِ جَمِيلَةٌ وَأحْسَنُ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ التَّفَضُّلُ

وَلَا عَارَ إنْ زَالَتْ عَنْ الْحُرِّ نِعْمَةٌ وَلَكِنَّ عَاراً أَنْ يَزُولَ التَّجَمُّلُ

وَالبَيْتُ الأوَّلُ يُشبهُ مَعنَاهُ قَوْلَ أبِي ذُؤَيبِ الهُذَلِي:

وَالنَّـفْـسُ رَاغِـبَـةٌ إِذَا رَغَّـبْـتَـهَا وَإِذَا تُــرَدُّ إِلَـى قَـلِيـلٍ تَـقْـنَـعُ

أمَّا الوَزيرُ المُهَلَّبِي، وَقِيلَ: عَبدُ اللهِ بنُ المُعتز، فَقدْ تَجَاوَزَ الحَديثَ عَنِ النَّفسِ إلَى الحَدِيثِ مَعَهَا، فَقَالَ لَهَا مُحَذِّراً:

يَا نَفْسُ صَبْراً وَإِلَّا فَاهْلَكِي جَزَعًا إِنَّ الزَّمَانَ عَلَى مَا تَكْرَهِيْنَ بُنِي

يُخَاطِبُ الشَّاعِرُ نَفسَهُ مُستَنِدًا إلى المَنْطِقِ، فَيُخْبِرُهَا أَنَّ أمامَهَا خَيَارَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، فَإمَّا أنْ تَصْبِرَ عَلَى نَوائِبِ الدَّهْرِ، وإلَّا فَلْيَهْنَهَا (الجَزَعُ)، إذْ هُوَ الخيَارُ الثَّانِي وَالأخيرُ، فاخْتارِي مَا يَرُوقَكِ يَا نَفْسِي، مَعَ ضَرُورَةِ أَخْذِكِ فِي الاعْتِبَارِ أنَّ الأصْلَ فِي الحَوَادِثِ مَا تَكْرَهِينَ لَا مَا تُحِبّينَ.

فِي هَذَا البَيْتِ يَنْتَهِجُ الشَّاعِرُ فِي حَدِيثِهِ مَعَ نَفْسِهِ، الخيَارَ الثَّانِيَ مِنْ خِيَارَاتِ بَيْتِ الهُذَلِيّ:

وَإِذَا تُــرَدُّ إِلَـى قَـلِيـلٍ تَـقْـنَـعُ

فكأَنَّهُ بأسلوبِ الحَزمِ وَالحَسْمِ، ينتظرُ منهَا أن تَقنعَ، إذ يَرُدُّهَا بالتَّحذيرِ وَالتَّنذِيرِ إلَى القَليلِ.

وَهيَ فِكرةُ عَليّ بنِ الجَهْم نفسُهَا، في بيتِه، إذ يقولُ إنَّ النَّفسَ قادرةٌ علَى الاحتمالِ، قابلةٌ للتَّحمُّلِ، إذَا عاملتَها بهذَا الاتّجاهِ، وإِيَّاكَ أن تنتظرَ مِنْ نَفسِك تَحمُّلاً إذا أنتَ لم توالِ تحميلَها، مرةً إثرَ أخرَى.

وَنحوُهُ قولُ عَمْرُو بنُ مَالِكٍ الْحَارِثيّ :

والْنّفسُ لَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ حِيزَ لَهَا

مَا كَانَ إِنْ هِيَ لَم تَقْنَعُ بِكَافِيْهَا

أي أنَّ النَّفسَ إذا لم تُعَوَّد علَى القناعَةِ،

فَلنْ يُرضِيَهَا شيءٌ وَلوْ مَلَكَتِ الدُّنْيَا كُلَّهَا.

وَفِي قولِ عَلِيّ بنِ الجَهْم:

وَأحْسَنُ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ التَّفَضُّلُ

أَجملُ مَا يُمكنُ أنْ يشرحَ بهِ عَجز البَيْتِ، بيان ضِدِّهِ، الذي جاءَ في بيتِ عَمرو بنِ الأهتَمِ التَّميمي، القَائل:

لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلاَدٌ بِأَهْلِهَا

وَلَكِنَّ أَخْلاَقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

ولابنِ الرُّومِيّ قولُه:

سَلَبَتهُ الـخُطُوبُ مَا فِـي يَدَيهِ وَلَــهُ مِــنْ تَــجَــمُّـلٍ أَثــوَابُ

وإذَا الصَّبْـرُ وَالتَّـجَـمُّـلُ دَامَـا لِلفَتَى الحُرِّ هَانَتِ الأسْبَابُ

في كتاب «أُنس المسجون وراحة المحزون»، لِصَفِيّ الدّين الحَلَبِي:

«قيل: يتعَزَّى العاقلُ فيمَا ينزلُ به من المكروهٍ بأمرينِ:

الأول: السُّرورُ بما يبقَى له من الأجر.

والآخرُ: رجاءُ الفَرج.

وَيجزَعُ الجَاهِلُ فيمَا ينزلُ به. لأَمرينِ:

خوفُ الشَّماتةِ، وَضِيقُ الحَال.

وَيخافُ التَّقِيُّ فيمَا ينزلُ به، بأمرينِ:

الأوَّلُ: فِي مُصِيبةِ استكبَارهِ ما أتَى بِه.

وَالآخرُ: خَوفُ مَا هوَ أشدُّ منه.

وَقِيلَ: لِلمِحنِ أَوقَاتٌ، وَلأوقَاتِهَا غَايَات».

وَالشَّاعِرُ العَبَّاسِيُّ، عَلِيُّ بنُ الجَهْمِ، هُوَ «أَبُو الحَسن، من بنِي سَامة، من لؤيِّ بنِ غَالب: شاعرٌ، رقيقُ الشّعر، أديبٌ، من أَهلِ بَغدادَ.

كانَ مُعاصراً لأبِي تَمَّام، وخُصَّ بالمُتَوَكَّلِ العَباسِي. ثمَّ غَضِبَ عليهِ المُتوكّلُ، فنفاهُ إلَى خُراسَانَ، فأقامَ مُدَّة. وانتقلَ إلَى حَلَب، ثمَّ خَرجَ منهَا بِجماعَةٍ يُريدُ الغَزوَ، فاعْتَرَضَهُ فُرسَانٌ مِنْ بَنِي كَلْب، فَقَاتَلَهُمْ، وَجُرِحَ وَمَاتَ مِنْ جِرَاحِه» (ت249هـ=863م). وفقًا للزّركَلي فِي «الأعلام».

قَالَ ابنُ المُعتَز فِي «طبقات الشعراء»، عَنْ علِي بنِ الجَهْم:

«حَكَمُوا لَهُ بِأَنَّهُ أَشْعَرُ النَّاسِ،

فَأَذْعنَتْ لَهُ الشُّعَرَاءُ وَهَابَتْهُ الأُمَرَاء».

وَوَصَفَهُ المَزربَانِي فِي «معجم الشعراء»، بأنَّهُ «شَاعِرٌ مَطْبُوعٌ، عَذْبُ الأَلفَاظِ، سَهْلُ الكَلَامِ، مُقْتَدِرٌ عَلَى الشّعْرِ... وَمَدَحَ عَلِيٌّ المُعتَصِمَ والوَاثقَ، وجَالَسَ المُتَوَكِّلَ».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد