خيرالله خيرالله
أخيراً، وجد بين كبار المسؤولين اللبنانيين من يردّ على البيان اللامنطقي الذي صدر عن «حزب الله»، وهو بيان يرفض فيه أي مفاوضات مع إسرائيل. يرفض الحزب المفاوضات من أجل تبرير بقاء الاحتلال الإسرائيلي لخمسة مواقع في جنوب لبنان. يبحث الحزب في الواقع عن مبرّر للاحتفاظ بسلاحه من منطلق أن السلاح أهمّ من زوال الاحتلال. لم يتخلّ الحزب يوماً عن فكرة أن الانتصار على لبنان ومنعه من ممارسة ثقافة الحياة أهمّ بكثير من الانتصار على إسرائيل.
من ردّ على «حزب الله» كان رئيس مجلس الوزراء نواف سلام. ردّ بقوله: «قرار الحرب والسلم استردته الحكومة اللبنانية». أراد بذلك تأكيد أنّ مصلحة لبنان في زوال الاحتلال وليس في استمراره كما يريد الحزب.
قبل ردّ نواف سلام، صدر عن رئيس الجمهورية جوزيف عون، كلام يشير إلى أن لبنان يريد بالفعل تفادي الكارثة المركبة التي يبدو مقبلاً عليها... بدل الاستسلام للقوى التي تريد حرمانه من حقّه في الحياة. الكلام الذي قاله رئيس الجمهورية عن التفاوض مع إسرائيل، التي لم يسمّها، ليس جديداً. الجديد التركيز على أن «لاخيار آخر غير التفاوض». إنّّه كلام جميل ومنطقي، لكن كيف ترجمته على أرض الواقع في ظلّ ظروف داخليّة وإقليمية في غاية التعقيد.
يعبّر عن هذه الظروف شبه العزلة العربية التي يعيش في ظلّها لبنان من جهة ونوع من الازدراء الأميركي له من جهة أخرى. ليس ما يؤكّد هذا الازدراء أكثر من استعداد الرئيس دونالد ترامب، لاستقبال الرئيس السوري أحمد الشرع في واشنطن (غداً) العاشر من الشهر الجاري. سيكون الشرع أوّل رئيس سوري يستضيفه البيت الأبيض منذ استقلال سوريا في العام 1946. كان الشرع في الرياض حديثاً وكان موضع ترحيب سعودي لافت بحضور الأمير محمّد بن سلمان، وليّ العهد السعودي في ظلّ غياب لبناني لافت. إنّه سبب كاف كي يفكّر لبنان، على أعلى المستويات، في كيفية إيجاد موقع له على الخريطة السياسيّة للمنطقة بدءاً بمعرفة ما تريده إسرائيل فعلاً غير الانتهاء من سلاح الحزب.
إضافة إلى ذلك كلّه، لم يكن وقع كلام المبعوث الأميركي توم برّاك، إلى سوريا ولبنان سهل الابتلاع. كان تعبيراً عن معاناة ذات طابع شخصي لبرّاك نفسه مع طبيعة المهمة التي أوكلت إليه في بلد تعود أصوله إليه. كذلك، كان قوله إن لبنان «دولة فاشلة» بمثابة فقدان أمل بأي مسعى يمكن أن تقوم به أميركا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان. اكتشف برّاك أن لا تجاوب لبنانياً مع أي إصلاحات ولا استيعاب لأهمّية نزع «حزب الله» لسلاحه بطريقة أو بأخرى.
ربما كان توقيت صدور كلام الرئيس جوزيف عون، بالصدفة، وربما كان أمراً مقصوداً أن يصدر الكلام عن «خيار التفاوض»، كونه لا يوجد بديل منه، في الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر 2025، يوم توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969. هل أراد رئيس الجمهوريّة القول إن لبنان تعلّم من درس توقيع اتفاق القاهرة؟
كان الاتفاق – الجريمة فعل إلغاء لبناني من جانب واحد لاتفاق الهدنة مع إسرائيل الذي ضمن هدوءاً في جنوب لبنان بين 1949 و1968، حين بدأ مسلحون فلسطينيون يتسلّلون إلى جنوب لبنان لتنفيذ عمليات في الجانب الآخر من خطّ الحدود. يطالب لبنان حالياً، بين حين وآخر، بالعودة إلى اتفاق الهدنة كأنّ اتفاق القاهرة كان مجرّد حادث عابر... أو خطأ مطبعي يمكن إصلاحه بجرّة قلم!
من حسن الحظ أن رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، ردّ على الكلام اللامنطقي الذي خرج به قبل أيام «حزب الله» رافضاً أيّ مفاوضات مع إسرائيل. قال سلام: «قرار الحرب والسلم استردته الحكومة اللبنانية وما حدا له كلام بالموضوع». يفترض إيجاد ترجمة لهذا الكلام، بمعنى أن يؤكّد لبنان على أعلى مستوى أنّ احتفاظ «حزب الله» بسلاحه هو الطريق الأقصر لبقاء الاحتلال الإسرائيلي المستجد لأراضٍ في جنوب لبنان.
كيف منع حملة عسكريّة إسرائيلية جديدة على لبنان؟ كيف ضمان انسحاب إسرائيلي من الجنوب؟ كيف عودة أهل القرى المدمّرة إلى أرضهم تمهيداً للسعي إلى إعادة إعمار هذه القرى؟ من الطرف المستعد للمساهمة في إعادة الإعمار بوجود سلاح الحزب وفي غياب سلام مع إسرائيل؟ لا توجد جهة عربيّة أو دوليّة على استعداد لذلك. كل ما تبقى نشاط ذو طابع فولكلوري تقوم به جهات لبنانيّة لا أكثر...
من هذا المنطلق، المطروح لبنانياً ليس مجرّد الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، مقدار ما أن المطروح إعطاء بعد سياسي ومعنى لهذه المفاوضات بعيداً عن الشكل وعن اعتبارات من النوع المضحك المبكي عن تفادي مشاركة أي سفير أو وزير في الوفد اللبناني. هل المظاهر أهمّ من المضمون أم المطلوب في نهاية المطاف التوصّل إلى نتائج ملموسة تتوّج بتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب وعودة المهجرين إلى قراهم؟
بعيداً عن الاعتبارات التي يسميها بعضهم «وطنيّة»، يظل مهمّاً السعي إلى تحقيق نتائج. النتائج وحدها كفيلة بإعطاء معنى لكلام رئيس الجمهورية بدل الدوران في حلقة مقفلة. إنّه دوران يجعل البلد يدور على نفسه.
لن يساعد أحد لبنان إذا لم يساعد نفسه. يبدأ لبنان بمساعدة نفسه عبر التعاطي مع الواقع كما هو. يقول الواقع إنّ البلد كلّه يدفع حالياً ثمن فتح الحزب، ومن خلفه إيران، جبهة جنوب لبنان في الثامن تشرين الأوّل – أكتوبر 2023، في ما سمّي «حرب إسناد غزّة». يوجد ثمن لا مفرّ من دفعه، لا لشيء سوى لأن الحزب لم ينتصر في تلك الحرب، بل لحقت به هزيمة لا يغطيها التمسّك بشعارات من ماضٍ مضى.

