امتدادًا لمقالنا السابق عن مرونة نقاط البيع وحركة التداولات المصرفية، يتواصل المشهد المالي السعودي في تحوله النوعي نحو الاقتصاد الرقمي الشامل، بقيادة البنك المركزي السعودي (ساما) وهيئة الحكومة الرقمية، وبدعمٍ مباشر من رؤية المملكة 2030 التي جعلت التقنية أداة تمكين رئيسة لكل القطاعات.
لقد كانت السنوات الخمس الماضية شاهدة على قفزة غير مسبوقة في التحول البنكي والتقنيات المالية. فبحسب تقرير البنك المركزي السعودي لعام 2024، ارتفع عدد شركات التقنية المالية العاملة في المملكة إلى 207 شركات، مقارنة بـ 89 شركة فقط في عام 2021، بنسبة نمو تجاوزت 130 % خلال ثلاث سنوات.
كما أظهرت بيانات شبكة المدفوعات السعودية (مدى) أن عدد عمليات نقاط البيع تجاوز 8.4 مليارات عملية خلال عام 2024، بقيمة إجمالية بلغت 790 مليار ريال سعودي، وهو أعلى رقم في تاريخ المملكة، ما يعكس التحول من النقد الورقي إلى المعاملات الرقمية الآمنة والمرنة.
هذا النمو لم يقتصر على الدفع فقط، بل شمل الخدمات المصرفية الرقمية وتمويل الأفراد والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، حيث أصدرت ساما أكثر من 25 ترخيصًا لبنوك ومحافظ رقمية حتى منتصف 2025، من أبرزها: STC Bank، وAlinma Pay، وRiyal Digital Bank، مما وسّع خيارات المستهلكين ورفع التنافسية في القطاع. وفي سياق عالمي، صنّف تقرير Global Fintech Index 2024 المملكة في المرتبة الـ 9 عالميًا من حيث سرعة تبني حلول التقنية المالية، متقدمة بذلك على عدة مراكز مالية عالمية في آسيا وأوروبا.
ويُعد برنامج تطوير القطاع المالي (FSDP) أحد البرامج التنفيذية المحورية في رؤية 2030، إذ يسعى إلى زيادة نسبة المدفوعات الرقمية لتصل إلى 80 % بحلول عام 2030، وتعزيز الوصول المالي لجميع فئات المجتمع.
وفي إطار هذا التحول، أصبحت الرياض مركزًا إقليميًا للتقنية المالية في الشرق الأوسط، من خلال مبادرة Fintech Saudi التي أُطلقت عام 2018 بدعم من ساما وهيئة السوق المالية، والتي نجحت في بناء منظومة حيوية تضم أكثر من 200 شركة ناشئة، واحتضنت استثمارات تجاوزت 4 مليارات ريال سعودي حتى عام 2025.
هذا النمو المتسارع يعكس التحول من مفهوم “القطاع المالي التقليدي” إلى “الاقتصاد المالي الذكي”، حيث أصبح المواطن السعودي اليوم يتعامل مع نظام مصرفي رقمي متكامل يربط الحسابات، والتجارة، والدفع، والاستثمار، في بيئة آمنة وشفافة.
وتبرز هنا رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- حين قال:
«التحول الرقمي ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية لبناء اقتصاد المستقبل».
إنّ ما تحققه المملكة اليوم في قطاع التقنية المالية يبرهن أن الابتكار أصبح محركًا اقتصاديًا حقيقيًا لا يقل أهمية عن النفط أو الصناعة. فكل عملية إلكترونية تُجريها شركة أو فرد هي استثمار في الكفاءة والثقة، وكل تطبيق مالي يُبتكر داخل المملكة هو نافذة جديدة للعالم على القدرة السعودية في صناعة المستقبل المالي الذكي.
وبين أرقام النمو وواقع التحول، تتجلى قصة نجاح وطنية تُعيد تعريف مفهوم البنوك، لتجعلها ليست مؤسسات لإدارة المال فقط، بل شركاء في الابتكار والتمكين الاقتصادي.
وفي ختام هذا المسار، نتوجه بالشكر لقيادتنا الرشيدة التي وضعت اللبنات الأولى لمجتمعٍ ماليٍ رقميٍ متكامل، يقوده الشباب ويخدم الوطن، مؤكدين أن المملكة لم تكتفِ بمواكبة التحول المالي العالمي.. بل أصبحت من صُنّاعه وروّاده.

