محمد الرميحي
امتنعت الإدارة الأمريكية عن إرسال مندوب لها إلى قمة المناخ التي انطلقت الأسبوع الماضي في البرازيل، وقبل ذلك شككت منذ سنوات في أهمية أخذ لقاح كوفيد 19، ويذكر لنا ديفيد كاميرون، ريس الوزراء البريطاني الأسبق، في مذكراته أنه لو كان يعرف بالنتيجة لما غامر بالاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والآن بريطانيا تعاني من مشكلات اقتصادية معقدة، نتيجة مباشرة لتلك الخطوة، في الوقت الذي كان العلماء البريطانيون والاقتصاديون يحذرون من الخروج من التكتل.
تلك بعض الأمثلة، حيث يسير القرار السياسي خلف المزاج العام، ولا يقوده، فسبب ضرراً ضخماً للناس.
في عالم تتصارع فيه المعارف، وتتشابك فيه العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يفترض بالسياسي أن يكون أول من يصغي إلى صوت العلم، لا إلى ضجيج الشارع، غير أن ما نشهده في العقود الأخيرة هو العكس تماماً، تراجع مكانة العقل العلمي أمام صعود النزعة الشعبوية، حيث يفضل بعض القادة السياسيين مجاراة ما يريده الجمهور على ما تنقصه من حقائق، وتعارضه الدراسات العلمية، وفي النتيجة فإنه في الغالب تكون قرارات قصيرة النظر، ترضي الرأي العام مؤقتاً، لكنها تضعف الدولة على المدى الطويل.
العلم بطبيعته يسعى إلى الحقيقة عبر الدليل والبرهان، بينما السياسة في جوهرها فن الممكن والتكتيك المؤقت، والاستجابة للواقع الاجتماعي، ومغازلة عواطف الشارع، غير أن الخطورة تظهر حين يقرر السياسي أن العلم ترف لا مكان له أمام حسابات المكسب والخسارة السياسية والانتخابية، في مثل هذه اللحظات يتراجع صوت الخبراء والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والمناخ، ليحل محله صاخب الشعارات والعواطف والمخاوف الجماهيرية.
من الأمثلة على تلك التجربة الرئيس ترامب عندما أحاط نفسه بفريق من العلماء على رأسهم مدير الصحة العامة أنتوني فاوتشي، إبان جائحة كوفيد 19، ولكن حين تبين أن الإجراءات الصحية الصارمة قد تؤثر على الاقتصاد، اختار الرئيس السخرية من الرجل الذي كان رئيساً للمختبرات الطبية، بل استخدم خطابه الشعبوي ضده وحولت الكلمات إلى لكمات، شاعراً أن الناس سئموا من سماع رأي العلماء، وانتهت النتيجة كما نعلم إلى كارثة صحية واقتصادية، ولكن في الوقت نفسه أكسبت الرئيس تصفيقاً مؤيداً في حينها.
في المسار الآخر جايير بولسونارو، حيث اختار تجاهل العلم من أجل النفط في البرازيل، وسلك الرئيس المسار ذاته حين قلل من شأن التحذيرات البيئية حول تدمير غابات الأمازون، ورفض الالتزام باتفاقية المناخ، واعتبرها قيوداً على النمو الوطني، بل تهكم على مؤتمرات البيئة الدولية، لقد قدم خطاباً قومياً بسيطاً بالقول إن الغرب يريدنا أن نبقى فقراء باسم البيئة، وهو خطاب لاقى صدى واسعاً لدى الفئات الشعبية المتضررة من الفقر، لكنه أضر بمكانة البرازيل عالمياً وبمستقبلها البيئي.
حتى في تركيا، نجد أن الرئيس التركي يستخدم أيضاً آليات المشاعر الجماهيرية لتغليب القرار السياسي على العلم، ففي الاقتصاد مثلاً، رفض لسنوات نصائح كبار الاقتصاديين حول ضرورة رفع الفائدة للجم حجم التضخم، واعتبرها مؤامرة خارجية ضد تركيا، والنتيجة كانت انهيار الليرة التركية، وتفاقم التضخم، ما اضطره لاحقاً إلى التراجع جزئياً بعد أن تبين حجم الضرر.
هذه القرارات تظهر لنا كيف يمكن أن يتقدم الولاء الشعبي على الكفاءة الاقتصادية، في تحول الاقتصاد إلى رهينة، لاعتبارات سياسية، وفي بعضها دينية وثقافية ولا تستند إلى قواعد العلم الحديث.
حتى في العالم العربي، مع اختلاف السياق، فإن المعضلة ذاتها قائمة، فكثير من القرارات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية تتخذ استجابة لضغط الرأي العام أو خوفاً من غضب الشارع، دون دراسة علمية، فعندما ترتفع أسعار الطاقة وتطرح إصلاحات تعليمية وثقافية، فغالباً ما تتراجع الحكومات تحت الضغط الشعبي لصالح الإنفاق العام، بدل أن تشرح للمواطنين المنطق العلمي والاقتصادي، لاستثمار الفائض، وهكذا يستنزف رصيد الميزانية، وتقدم الحلول المؤقتة على الحلول المستدامة.
السياسة ليست نقيض العلم بشكل مطلق، بل يمكن أن تكون امتداداً له، إذا امتلك السياسي الشجاعة الأخلاقية والمعرفة والكفاءة، ليستند إلى الحقائق لا إلى الأهواء، القائد الحقيقي ليس من يتبع الجماهير، بل من يقودها. في الأسبوع الماضي رأينا في أبوظبي كيف يقود العلم القرار السياسي، وسنشرحه في مقال آخر.

