تغريد إبراهيم الطاسان
الممنوع لماذا دائماً هو مرغوب..؟!
سؤال قديم يتجدد في كل عصر، يهمس في أذن الإنسان منذ أول نفس للبشرية، وكأنه طبع في فطرة الفضول أن ينحاز إلى ما لا يُسمح به، وأن تُستفز حواسه كلما أُشير إلى حدٍّ يجب ألا يُتخطى. ليست المسألة رغبةً في التمرد فحسب، بل فضول وجودي عميق يجعل الإنسان يقيس ذاته بما يُمنع عنه. فالممنوع في جوهره ليس دائماً محرَّمًا لذاته، بقدر ما هو مرآة تُظهر نزعة الإنسان القديمة نحو الحرية، نحو اختبار الحياة في أقصى احتمالاتها.
منذ الطفولة تبدأ القصة. فكل «لا نهي» تُشعل أول شرارة للفضول، وكل «احذر» تزرع بذرة السؤال: ولماذا لا؟ ومع الزمن تتكوَّن في وعينا معادلة غير معلنة.. كل ما يُمنع يبدو أكثر لمعاناً، أكثر إثارة، أكثر جدارة بالتجربة.
ليس لأننا نميل إلى الخطأ أو الخطيئة، بل لأننا نحتاج أن نفهم الحدود قبل أن نحترمها. فالممنوع يجذبنا لأننا نريد أن نعرفه، أن نكتشفه بأنفسنا لا أن نُخبر عنه. والإنسان لا يكتفي بأن يعيش وفق ما يُقال له، بل يبحث عمَّا يُخفيه القول خلفه.
لكن السؤال الأعمق: ما الممنوع حقاً؟ من الذي يرسم حدوده؟ المجتمع؟ الدين؟ السلطة؟ أم الضمير؟ إن الممنوع مفهوم متغيِّر، يخضع للثقافة والزمان والمكان.
لو وجهنا استفهامنا هذا قبل الدين: فالإجابة الحتمية التي لا تقبل نقاش أن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.. ومن هذا المنطلق يكون في الالتزام بالمسافات الآمنة بين الفضول الإنساني والحواجز الشرعية، أمان واطمئنان..
أما لو أدرنا وجهنا نحو النواهي الاجتماعية والفكرية.. فما كان محرَّماً في زمن قد يصبح مألوفاً في زمن آخر، وما يُستنكر في بيئة يُحتفى به في أخرى. هنا تكمن المفارقة: إننا لا نتعامل مع «الممنوع الاجتماعي أو الفكري» بوصفه ثابتاً، بل بوصفه مفهوماً يصنعه الإنسان نفسه، ثم يُعذِّب نفسه بالحنين إليه. فالممنوع ليس شيئاً خارجياً تماماً، بل هو انعكاس لصراع داخلي بين ما نريده وما نخشاه، بين الحرية والضبط، بين الغريزة والعقل.
وفي علم النفس الاجتماعي، تُفسَّر هذه الظاهرة بما يسمى «تأثير الندرة»؛ فكلما قَلَّ الشيء أو حُجِب عنا، ازداد في أعيننا قيمةً ورغبة.
الممنوع يُغذِّي الخيال، يجعلنا نراه كاملاً، نقيَّاً، جميلاً لأنه غير متاح. لكن حين نحصل عليه، يتبدد جزء من وهجه، لأن ما كان خيالاً صار واقعاً، والواقع مهما كان لامعاً لا ينافس الخيال في سحره.
وهكذا تستمر الدائرة: نرغب في الممنوع لأنه بعيد، وحين نقترب نفقد تلك الرغبة، فنبحث عن ممنوعٍ جديد لنستعيد الشعور نفسه. إنها معادلة الرغبة التي لا تهدأ.
غير أن التعامل الناضج مع الممنوع لا يعني كسره دائماً ولا الخضوع له تماماً، بل يعني أن نُدرِك سببه، أن نُميِّز بين الممنوع الذي يحفظنا والممنوع الذي يقيِّدنا. فبعض الممنوعات حدود أخلاقية تحفظ إنسانيتنا من الفوضى، وبعضها قيود اجتماعية صُنعت لتكريس السيطرة أو الخوف. وبعضها ممنوعات أمنية تحمينا من شرور نحن في غنى عنها، لذلك لا بد من الوعي الذي يُفرِّق بين المنع الحامي والمنع المانع للحياة. أن نفهم الممنوع وندرك لماذا وُضع، لا أن نرفضه لمجرد وجوده.
أما الرغبة فهي لا تُروَّض بالتحريم، بل بالفهم. فكل محاولة لطمسها تزيدها بريقاً، وكل تضييق عليها يجعلها تتسرَّب من منافذ أخرى أكثر خطراً. المجتمعات التي تُكثِر من الممنوعات بلا وعي، تخلق جيلاً من المتمردين الصامتين، الذين يطيعون ظاهراً ويثورون باطناً، لأنهم لم يُمنحوا مساحة للحوار مع ما يُمنع عنهم. والمجتمعات التي تُحلِّل كل شيء تفقد بدورها المعنى والهيبة. لذلك فالأجدى هو التوازن الذي يمنح الإنسان سبباً ليختار، لا قيداً ليُجبر.
إن الممنوع في النهاية اختبار للحكمة، لا للرغبة فقط. اختبار لقدرتنا على النظر في دوافعنا قبل أفعالنا، ولتمييز الحرية عن الفوضى. وحين نصل إلى مرحلة لا ننجذب فيها للممنوع لأنه ممنوع، بل لأننا نراه ذا معنى، نكون قد تجاوزنا طفولة الرغبة إلى نضج الوعي. عندها فقط لا يعود المنع قيداً، بل يصبح خياراً، ولا تكون الرغبة انقياداً، بل بصيرة تعرف متى تمتد اليد، ومتى تكتفي بالنظر من بعيد.
تلك هي المعادلة التي تحكم علاقتنا بالممنوع: إن لم نفهمه سيغوينا، وإن واجهناه بوعي سيتحول من فخٍّ إلى درس. فالرغبات لا تُلغى بالمنع، بل تُهذَِّب بالفهم، والحدود لا تُحترم بالخوف، بل بالقناعة. وبين «لا تقترب» و»سأعرف بنفسي» يعيش الإنسان عمره كله، يتعلَّم كيف يكون حراً داخل أسوار الحدود لا أسيراً وسط فوضى التمادي في فضاء المرغوب.

