: آخر تحديث

علقوا صورهم في السماء… وعلى الأرض تركوا الخراب

1
2
1

 

في موسم الانتخابات، تتزاحم صورُ المرشّحين على الجدران واللوحات، وتعلو السماءَ وجوهٌ مألوفة لم تقدّم سوى الوعود. وجوهٌ عاشت على خيبة المواطن، وعادت اليوم تبتسم له من جديد، بعد أن أنفقت ملايين الدولارات لتجميل صورتها في عيون الناس، بينما الأرضُ التي يسير عليها الغالبيةُ غارقةٌ في الخراب الذي خلّفته سنواتُ حكمهم.

في شوارع بغداد وحدها، يمكن أن ترى مظاهرَ البذخ الانتخابي تتجاوز كلَّ المعقول. أحد المرشحين أنفق ما يقارب 350 ألف دولار فقط على إعلانات جوية عبر طائرات الدرون وشاشات رقمية ضخمة في الهواء، كي “تحلّق صورته فوق المدينة”. هذا الرقم ليس استثناءً، بل جزءٌ من مشهدٍ واسع أكّدت تقاريرُ عدة أنه يشهد إنفاقًا انتخابيًا يفوق المليارات من الدنانير في بعض الدوائر. فقد أشارت بعضُ التقارير الإخبارية إلى أن بعض المرشحين عرضوا ما يزيد على مليار دينار عراقي (نحو 750 ألف دولار) لشراء الأصوات أو عقد صفقات سياسية محلية، فيما أوضح معهد Chatham House البريطاني أن “الانتخابات في العراق تحوّلت إلى أداة لإعادة إنتاج النفوذ والثروة، أكثر من كونها وسيلة للتغيير الديمقراطي”.

هذه الأرقام ليست سوى انعكاسٍ لنظامٍ سياسيٍّ فاسد تأسّس منذ عام 2003، حين تحوّلت الدولة إلى مزارع حزبية، تُوزّع فيها الوزاراتُ والمشاريع كما تُوزّع الغنائم. ملياراتُ الدولارات تسرّبت من خزائن الدولة إلى جيوب الساسة، فيما بقي المواطن العراقي يفتقر إلى أبسط مقوّمات العيش الكريم: ماءٌ نظيف، كهرباءُ مستقرة، ومستشفى يستحق أن يُسمّى كذلك.

لقد شهد العراق خلال حكم هذه الطبقة السياسية أسوأَ فتراته الحديثة: جفافٌ في الأنهار نتيجة الإهمال وسوء الإدارة، ومشاريعُ وهمية لم تُنجز إلا على الورق، وفسادٌ متجذّر في كل مفصل من مفاصل الدولة. ومع كل انتخابات جديدة، يُعاد المشهد ذاته — الوجوهُ نفسها، الشعاراتُ ذاتها، والمالُ ذاته يُستخدم لإعادة تدوير الفشل.

الناخب العراقي لم يُعامَل يومًا كمواطنٍ له حقوق، بل كأداةٍ تُستخدم للوصول إلى الكرسي، ثم يُترك ليواجه واقعَه المُرّ وحده. إنهم يطلبون صوته مقابل وعودٍ زائفة، بينما يتجاهلون حقَّه في حياةٍ كريمة، كما كفله الدستور.

اليوم، حين يعلّق المرشّحون صورهم في السماء، فإنها لا تعكس إلا المسافةَ التي تفصلهم عن الأرض التي أفسدوها. فالشعب لا يحتاج إلى صورٍ ضخمة تبتسم له من الأعلى، بل إلى وجوهٍ صادقة تنزل إلى الأرض لتُصلح ما دمّروه. العراق لا يحتاج إلى حملاتٍ فارهة، بل إلى ضمائر حيّة. فبعد عقدين من الفساد، لم يعد الناس يصدّقون الوعود، بل ينتظرون يومًا تُعلّق فيه صورُ العدالة… لا صورُ الساسة.

وبحسب مراقبين، فإن انتخابات عام 2025 ستكون الحدّ الفاصل بين عهدين: عهدِ الأحزاب التي أسّست للفساد وكرّست الانقسام، وعهدٍ جديدٍ قد يرسم ملامحَ عراقٍ مختلف إذا ما اختار الشعبُ طريقَ المحاسبة والتغيير. أمّا الحسم الحقيقي بعد الانتخابات، فيجب أن يكون ضمن إطار تطبيق بنود الدستور، لا عبر الشعارات أو الصفقات، فالدولة لا تُبنى إلا بالقانون، والشعب لا ينهض إلا حين تُصان إرادته بالدستور، لا بالمال.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.