عن صناعة الدواء في بلادنا كتبت سابقاً مقالين أولهما: في اكتوبر 2020 والثاني: في شهر ديسمبر 2024، وفي رأيي أن هذا الموضوع المهم إستراتيجيًا يستحق مزيدا من المقالات من الزملاء كتّاب الرأي ومن أصحاب الاختصاص في مجال الدواء الذين ننتظر منهم اهتمامًا أكبر بأهمية إنتاج وصناعة الدواء في بلادنا خاصة، وقد شهد العالم بنجاح السعودية في مواجهة أكبر أزمة صحية عانت منها دول العالم وهي "أزمة كورونا" التي كانت كما وصفتها في مقال سابق "الضارة النافعة" حيث علمتنا كجهات مختصة وحتى أفرادًا دروسًا نافعة لمواجهة الأزمات.
واليوم أكتب عن هذا الموضوع مجددًا بمناسبة ما وجه به مجلس الوزراء يوم الثلاثاء الماضي، بأن تقوم وزارة الصناعة والثروة المعدنية بالاتفاق مع وزارة المالية باتخاذ ما يلزم لاستحداث واعتماد بند خاص بتوطين الصناعات الدوائية في ميزانيات الجهات الصحية الحكومية. على غرار النجاح المتحقق في أحد مستهدفات رؤية السعودية 2030 بتوطين الصناعات والمشتريات العسكرية التي بلغت نهاية العام الماضي 2024 نسبة 19.35% مقابل 4% في 2018، وصولًا إلى توطين ما يزيد على 50% من الإنفاق الحكومي على المعدات والخدمات العسكرية بحلول عام 2030، وهذا التوجيه المهم الصادر أخيرا من شأنه دعم توطين صناعة الدواء بشكل قوي.
لكي تتطور بوتيرة أسرع مما كان لهذا القطاع الحديث نسبياً إذ إن أول شركة سعودية أُسست وفق معايير وتقنيات علمية وصناعية حديثة في هذا المجال هي: الشركة السعودية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية وذلك (1986) تلتها شركات دوائية تسعى مجتمعة في سد جزء من حاجة السوق المحلية والتصدير للأسواق القريبة ومنها الشركة السعودية لصناعات التكنولوجيا الطبية الحيوية، التي تعمل على نقل وتوطين صناعة الدواء، حيث بدأت بتأسيس مصنع لإنتاج الأنسولين وأدوية السرطان وأمراض الدم وغيرها من الصناعات ذات العلاقة.
كما أطلق صندوق الاستثمارات العامة في عام 2023 شركة الاستثمارات الدوائية "لايفيرا" المتخصصة في الصناعات الدوائية لتمكين نمو القطاع وتعزيز مرونته من خلال العمل على إنتاج الأدوية الحيوية على نطاق تجاري، ما يساعد على ترسيخ مكانة السعودية كوجهة عالمية لإنتاج الأدوية. وتقوم هذه الشركة بالتركيز على صناعة المنتجات الدوائية الأساسية والمنقذة للحياة مثل: الأنسولين واللقاحات وأدوية البلازما والاجسام المضادة وغيرها مع تأسيس شراكات مع القطاع الخاص والشركات الدوائية العالمية.
وهذا النمو - وإن كان أبطأ من المأمول وأقل من حاجة السوق- يحظى باهتمام من الجهات الحكومية ذات العلاقة وفي مقدمتها وزارة الصناعة والثروة المعدنية التي عملت عبر منظومتها على دعم مشاريع توطين صناعة الأدوية والمنتجات الصيدلانية، سواء بالمواقع التي توفرها الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية "مدن" من خلال 36 مدينة صناعية تتضمن أراضٍ ومصانع مجهزة بالخدمات، إضافة إلى المواقع التي توفرها الهيئة الملكية للجبيل وينبع في 4 مدن صناعية تشرف عليها، إلى جانب ما يقدمه المركز الوطني للتنمية الصناعية من الخبرات الصناعية والتشريعات لاستقطاب المستثمرين.
وما يقدمه الصندوق الصناعي من تمويل لمشاريع المصانع المحلية، وجهود هيئة تنمية الصادرات السعودية التي تقدم نحو 90% من تكاليف الخدمات التصديرية، التي قال عنها قائد هذه المنظومة وزير الصناعة والثروة المعدنية بندر الخريف نهاية العام الماضي: "إن المستهدف هو توطين صناعة نحو 200 دواء نوعي وقد قررت الوزارة أولوية توطين هذه الأدوية لأهميتها البالغة في تحقيق الأمن الدوائي بتنسيق وعمل تكاملي مع جهات حكومية وخاصة، والمملكة تمضي قدمًا لأن تصبح مركزاً محورياً لصناعة الدواء واللقاحات في المنطقة بالتعاون مع الشركات العالمية المعروفة في هذا المجال".
وأخيراً: هذا التكامل الحكومي لتمكين صناعة الدواء من النمو والتطور، التي تشارك فيها وزارة الصحة ووزارة الاستثمار مع وزارة الصناعة والثروة المعدنية ببرامج ومبادرات تستهدف أصناف محددة من الأدوية والمستلزمات الطبية ذات حاجة أكبر، وشركات ومصانع دولية ذات مكانة عالمية لاستقطابها، ينتظر مزيدا من برامج التشجيع للبحوث الدوائية في الجامعات والمستشفيات ومراكز الأبحاث الطبية لتطوير المركّبات الدوائية الأنسب لسكان المنطقة للأمراض الأكثر انتشاراً، كما تزداد الحاجة لمساهمة القطاع الخاص والقطاع غير الربحي في تحفيز هذه الأبحاث والتوسع في توطين الصناعات الدوائية والمستلزمات والأجهزة الطبية.

