هم المُبشّرون بالمحبة. أدباء ينتظر القراء كتبهم الجديدة ويحتضنونها قبل النوم. ليس أجمل من القراءة في السرير. من هؤلاء الروائي المصري محمد المخزنجي. أطالع ما يكتب وأستطعم كل مفردة. نصوصه مثل حلوى المَنّ والسلوى. دفء اللغة وحلاوة الفكرة. وسواء كتب الرواية والقصة أو التحقيق والمقال، فإنها كلها من مباهج الأدب. يشتغل على النص بحرص الساعاتي على ضبط تردد الرقّاص؛ أي البندول.
جمع المخزنجي عشرات من مقالاته القصيرة ومنحها اسم «المجد للعواجيز والفخار». صدر الكتاب هذا العام عن «دار الشروق» القاهرية تحت تعريف: «تجربة في المقال القصصي». سعيت لاقتنائه؛ لأن الموضوع يهمني، فضلاً عن أن العنوان يُمجّد الفئة العمرية التي بِتّ أنتمي إليها، على أمل ألا أتحوّل إلى فخار.
أتوقّف عند مقال بعنوان «رشوة تاريخية». وهو تساؤل إنسانيّ عميق عن مصير خمسمائة أتان كان لها أثر خطير في مآل الإمبراطورية الرومانية. والأتان هي إناث الحمير. وهذه التي يتناولها المقال كانت جزءاً من ركب بوبايا سابينا، المحظيّة المفضلة للإمبراطور نيرون. استخدمت حليبها لتستحم به فيصير جلدها أنعم وأطرى. يتأمل الكاتب العلاقة بين الطغيان ونعومة الأنثى. يرى أن عشيقات الطغاة لسن نساء حقيقيات. «ثمة شوارب ولحى تختفي وراء نعومة جلودهن، وفيهن شهوة للتسلّط الذكوري. تعطي المحظيّة نعومتها للمستبد الجبار ويعطيها بعض سلطاته. قضية رشوة وفساد متبادل. والثمن تدفعه الشعوب، بل الحياة كلها بما فيها من طير وأرض وبحار وحيوان». والضحية هنا إناث الحمير.
أعادني مقال المخزنجي إلى ما سمعته عن مواطنته كليوباترا. سيدة زمانها. يقال إنها كانت تستحم بحليب الأتان. وكان معروفاً للوصفات العلاجية. تلقّفت الوصفة الملكة الإنجليزية كاترين بار، سادس زوجات هنري الثامن. غطست بالحليب للحفاظ على لؤلؤ بشرتها. ومثلها فعلت الملكة إليزابيث الأولى. ثم ارتفع منسوب البطر وأضيفت إلى المغطس زيوت عطرية ووريقات ورد وقطرات عسل!
كل يوم، كانت نجمة الغناء الأميركية آنا هيلد تستحم بالحليب. فإذا حلّت في باريس اكتفت بمرتين في الأسبوع. اشتهرت في برودواي بفضل أموال زوجها المنتج المسرحي فلو زيغفيلد. قال إنها كانت تستدعي الصحافيين والمصورين لتخليد ساعة استحمامها. يعني تعقد مؤتمراً صحافياً حول «البانيو». ثم انتشرت شائعة أن الفرنسيات يستحممن بالعطر فحسب. لكننا رأينا صورة التقطتها المصورة الأميركية آني ليبوفيتز لبريجيت باردو تهمّ بالغطس في حوض مملوء بالحليب. جرى ذلك في روما أثناء تصوير أحد الأفلام، عام 1956. وكانت باردو برعماً يتفجّر.
وأختم بما رواه الدكتور عبد الأمير علاوي، أشهر طبيب عراقيّ للأطفال أواسط القرن الماضي. استُدعي لمعاينة ابن السفير الفرنسي في بغداد. للطفل حساسية من حليب المرضعات، ووالدته غير قادرة على إرضاعه. نصحهم علاوي بحليب الأتان. وجيء بحمارة سمينة لتأدية المهمة. عيّنوا لها في السفارة راعياً مسؤولاً عن علفها ونظافتها. ولما انتهت مهمة السفير وعاد إلى بلاده شحن الأتان معه بالطائرة إلى باريس.

