لا يزال الكثير من المنظمات يحصر "التواصل" في إنتاج فيديو مُبهر، أو تغريدة لافتة! بهدف تحقيق انتشار سريع خلال مدة خاطفة، هذه الممارسات قد تحقق وهجاً مؤقتاً لكنها لا تصنع تأثيرا حقيقياً، ولا تضيف قيمة استراتيجية للمنظمة.
بالتأكيد "التواصل الفعال" أعمق من هذه النظرة الضيّقة، ذلك لأنه -هو قبل أي شيء- ممارسة استراتيجية تتطلب رؤية واضحة، وخطة متماسكة، ورسائل مركزية ثابتة، ومنهجية دقيقة في فهم الجمهور، وتحديداً للقوالب والمحتوى المناسب.
جوهر المشكلة يعود إلى أن التواصل غالباً ما يكون رد فعل لحدث وقع أو مناسبة تستدعي النشر، فيُقفز فوراً إلى التنفيذ، ليستدعي فريق الإنتاج، وتكتب النصوص وتنتج الوسائط الإعلامية، حتى يتم النشر عاجلاً، هذه الطريقة تشبه إطفاء الحرائق ولا تشبه التواصل الاستراتيجي! القادر على التأثير في الرأي العام وتحسين سمعة المؤسسة وإيصال رسائلها الأساسية.
الخطة الاستراتيجية للتواصل ليست وثيقة شكلية، بل البوصلة التي تحدد الاتجاه والهدف والموقع ضمن الصورة الكبرى، وهي ما تضمن أن جهود المنظمة تسير في خط واحد، وأن كل ما ينتج ويبث من محتوى يخدم أهدافاً تلكم الأهداف.
الخطة الاستراتيجية للتواصل يجب أن تجيب عن أسئلة محورية، مرتبطة برؤية ورسالة المنظمة، ثم الأهم إعداد خطة التواصل التنفيذية الخاصة بالمهمة نفسها، والتي تشمل العناصر الأساسية لكل خطة تواصلية، بالذات الأهداف، الرسائل المركزية، ونوع التأثير المطلوب صناعته، والجمهور المستهدف وخصائصه، القنوات والمنصات المناسبة، المحتوى، أدوات القياس، وآليات الاستجابة والتعديل.
عندما تطرح هذه الأسئلة مبكراً يصبح المنتج النهائي أكثر تأثيراً، ويتحوّل التواصل من استجابة طارئة إلى مشروع مؤسسي مستدام، ذلك لأن المنظمات الراسخة تبني سردية موحدة، والرسائل المركزية هي ما يمنح هذه السردية ثباتها، وهي مجموعة من الأفكار الجوهرية التي يجب أن تظهر في كل منشور وكل مقابلة وكل فيديو، لإن الجمهور لا يتذكر طوفان المحتوى، لكنه حتماً يتذكر الرسائل المتكررة.
الإشكالية الكبرى في القفز إلى الأدوات مثل الفيديوهات، أن ليست كل الأفكار تصلح أن تكون مقطعاً مرئيا! ليست كل الرسائل تصل في منشور قصير، وليست كل المواضيع تستحق مؤتمراً صحفياً، هنا تأتي الحاجة إلى فهم القوالب بناء على رؤيتك الاستراتيجية المخطط لها، لأن كل قالب هو وسيلة توصيل مختلفة تؤثر في طريقة استقبال الرسالة.
فمثلاً لو كانت الرسالة تحليلية عميقة فالقالب الأفضل مقال أو بيان تفصيلي، أما إذا كانت المشاعر أهم من المعلومة فالمقطع المرئي القصير قد يكون الأكثر تأثيراً، أما إذا كانت القضية تتطلب بناء مصداقية وثقة فالحوار الإعلامي هو الاختيار الصحيح، وإن كان الجمهور يافعاً فالأفضل استخدام قالب سريع وقابل للمشاركة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
المنظمات التي تؤمن بوظيفة التواصل لا تبتهج بالمؤشرات السطحية مثل مشاهدات الفيديو ولا أرقام الإعجابات، لأن تلكم المنظمات الناضجة تهتم بالتأثير الحقيقي، مثل تغير الانطباعات، أو تحسن السمعة. وارتفاع الثقة.
التواصل الفعال ليس ضجيج نشر، بل نتاج تأثير عميق، يربط بين الفكرة والجمهور عبر خُطة محكمة ورسائل دقيقة وأدوات مدروسة، هذا هو "التواصل الاستراتيجي" الذي يجب أن تؤمن به المنظمات التي ترغب تحقيق التأثير والثقة.

