: آخر تحديث

لماذا لا يزال مصطلح «الغرب» يُستخدم رغم غموضه؟

1
2
1

عبدالرحمن الحبيب

يطلق مصطلح «الغرب» بطريقة مربكة وفضفاضة، فإن قيل إنه خاص بأوربا فهو ليس حدوداً جغرافية لأنه لا يشمل كامل القارة، بينما يشمل أمريكا وكندا وغيرهما؛ وإن قيل أنه يعني تاريخ الحضارة الأوربية لكنه لم يظهر إلا تدريجياً في القرن التاسع عشر بطريقة غامضة، وكانت ذروة استخدامه بعد الحرب العالمية الثانية مع الحرب الباردة بين أمريكا ومعها أوربا الغربية الذي أطلق عليه «العالم الأول» مقابل الشرق الأوربي الشيوعي الذي أطلق عليه «العالم الثاني»، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم يعد لهذا الاصطلاح التراتبي أو «العنصري» مبرر لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الأخلاقية الذي يقسم العالم على مستويات حضارية: أول، ثان، ثالث.

الأكثر من ذلك، أنه بعد انهيار الشيوعية رأى كثيرون أن مصطلح الغرب متهافت، لأنه لم يعد له معنى أو معيار يمكن الركون إليه؛ وفي السنوات الأخيرة، جادل الباحثون بشكل متزايد بأن مصطلح «الغرب» غامض تحليليًا وخطير أيديولوجيًا. تنبأ بعض المؤلفين بالانهيار الجيوسياسي للغرب، وهو ما دفع سمير بوري إلى استعارة «اللاغربية» في كتابه الصادر عام 2024 والذي يحمل نفس العنوان؛ كذلك فإن ناويس ماك سويني، في كتابها الأكثر مبيعًا «الغرب: تاريخ جديد لفكرة قديمة»، حثَّت القراء على «التخلص من الرواية الكبرى للحضارة الغربية، وتجاهلها تمامًا لكونها غير صحيحة من الناحية الواقعية وبالية من الناحية الأيديولوجية»، كما سعى الباحثون التفكيكيون إلى نبذ فكرة مصطلح «الغرب»، وفقاً لبياروسلاف كويز، الباحث في الدراسات الروسية وأوروبا الشرقية بجامعة أكسفورد.

بل أن البروفيسور النرويجي أود أرن ويستاد المتخصص في الحرب الباردة، اقترح بشكل استفزازي أنه حتى خمسينيات القرن الماضي، كان مفهوم الغرب «بلا معنى»، ويفتقر إلى التماسك السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي الذي وفرته لاحقًا مؤسسات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ورغم ذلك لا يزال مصطلح الغرب رائجا، فما هي مبرراته ومعاييره السياسية والثقافية؟ الموسوعة البريطانية لا تزال تُعرّف «العالم الغربي» بأنه «وصف ثقافي-جغرافي يُشير عمومًا إلى دول أوروبا الغربية والدول التي نشأت كمستعمرات استيطانية من أوروبا الغربية».

والمفارقة - حسب كويز - أن مفهوم الغرب لا يزال رائجاً في خطاب خصومه؛ إذ يصف خطاب روسيا بوضوح «الغرب» بأنه خصمها؛ فيما أصبحت إدانة «الهيمنة الغربية» طقسًا دبلوماسيًا في بكين وموسكو وأماكن أخرى. ومن عجيب المفارقات أن الغرب يشهد انقساماً أيديولوجياً منذ عام 1989، ولكن منتقديه يرون فيه كتلة قمعية واحدة (بياروسلاف كويز).

في خضم كل هذا اللبس، يظهر كتاب جديد بعنوان «الغرب: تاريخ فكرة» تأليف جورجيوس فاروكساكيس بروفيسور تاريخ الفكر السياسي بجامعة كوين ماري بلندن، بهدف تحديد مفهوم ملتبس ومتعدد المتغيرات لطالما أحبط الباحثين في ضبطه، وتاريخ ظهوره، فمتى بدأ «الغربيون» في الإشارة إلى أنفسهم بهذه الطريقة؟ هل ظهرت الفكرة من فلاسفة الإغريق القدماء، أم الرومان؟ أم صاغها مفكرو عصر النهضة أو التنوير، أم المستعمرون في القرن التاسع عشر؟ لا هذا ولا ذاك، كما كتب فاروكساكيس.

مصطلح «الغرب» ظهر تدريجيًا اعتبارًا من عشرينيات القرن التاسع عشر، ثم روّج له بقوة في أربعينيات القرن التاسع عشر عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت (الذي كان مشروعه السياسي، بالمناسبة، معاديًا للإمبريالية بشدة) كما يُظهر فاروكساكيس، الذي يرى أن الحاجة إلى استخدام مصطلح «الغرب» نشأت لتجنب الالتباس والإرباك لاستخدام مصطلح «أوروبا»؛ لأن المفهومين متداخلان لكنهما غير متطابقين، إذ استُخدم مصطلح الغرب للتمييز عن بعض «الآخرين» داخل أوروبا، وكذلك ليشمل الأمريكيتين.

ورغم أن فكرة الغرب المتماسك آخذة في التلاشي، إلا أن فاروكساكيس وعلى عكس التيار الفكري يُظهر أن هذا المفهوم لا يزال قائمًا، ويميل أكثر إلى استعادة تراثه الفكري الإيجابي عبر تحليل قائمة من المؤلفين؛ إلا أن المرء يواجه جدار الواقع في الصراع بين التقاليد الديمقراطية وغير الديمقراطية في الغرب، لكن المؤلف ينحاز إلى الأولى حسبما يطرح بياروسلاف كويز الذي يرى أن هذا الخيار، وإن كان مُبرّرًا فكريًا، إلا أنه ينبع من منظور معياري يبدو خارجًا تمامًا عن الكتاب نفسه.

يواصل كويز بأنه في القرن الحادي والعشرين، يُترك القراء في مواجهة ساحة معركة أيديولوجية حول المعنى «الصحيح» للغرب، وإن أي ادعاء بالملكية الحصرية أو القاطعة للمصطلح هو في النهاية ادعاء تعسفي، إذ يُمكن للمرء بسهولة قراءة الكتاب بأكمله واختيار غرب مختلف عن فاروكساكيس. على سبيل المثال، اقترح جيمس كورت برنامجًا بديلًا للدفاع عن الغرب لا على أساس معايير الديموقراطية الليبرالية، بل «باسم الدين والأمم والعائلات والفنون».

مرونة مفهوم مصطلح «الغرب» هو سبب بقائه؛ هذه الفكرة الصادمة هي ربما أهم حجة من أفكار كتاب فاروكساكيس الذي يرى أن أكثر المفاهيم تأثيرًا سياسيًا وديمومة تاريخيًا هي تحديدًا تلك المشحونة عاطفيًا والمرنة في معناها؛ فالغموض الدلالي لمصطلح «الغرب» هو جزئيًا مصدر حيويته السياسية؛ وكما تأمل أوغسطين في معنى الزمن: «إذا لم يسألني أحد، فأنا أعرف ما هو؛ وإذا أردتُ شرحه لمن يسألني، فأنا لا أعرفه»؛ وقد ينطبق الأمر نفسه على «الغرب».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد