عندما نفكّر في كلمة «الاستعمار» التي سادت في الكتابات العربية خلالَ القرن الماضي، لا بدَّ أن نتوقفَ عند المعنى والدلالات المصاحبة. هذه إضافة تحريرية لمقالي السابق عن «الاستزمان»، حيث قلت إنَّ «الاستعمار التقليدي» هو سيطرة على المكان، بينما «الاستزمان» يمثل هيمنة على الزمان. الكلمة الإنجليزية Colonialism تُترجم عادة إلى «الاستعمار»، لكن هذا اللفظ العربي يحمِل ظلالاً دلالية ملتبسة وتصورات تجعل ما جرى وكأنه أمر إيجابي، ويخلع عن الاستعمار غباء العنف والإهانة لأهل البلاد. ومن هنا نحتاج إلى تحرير وتدقيق ما نستخدمه من ألفاظ لوصف ما يجري وما جرى. فقبل تحرير البلدان، لا بدَّ من تحرير العقل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحرير اللغة.
جذر كلمة «استعمار» يأتي من الفعل عَمَرَ، وهو في اللغة العربية يرتبط بالبناء والحياة والازدهار؛ العمران، العمارة، الإعمار. وبهذا، حين نقول «استعمار»، يتسرب إلى وعينا معنى «العمار»، وكأن ما جرى هو إدخال الحياة إلى أرض خراب، رؤية تقترب من الرواية الصهيونية لفلسطين: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». هذا بالضبط ما سعى إليه الخطاب الكولونيالي منذ البداية؛ أن المحتل جاء ليعمر، لا ليهدم، جاء ليبني لا ليقتلع الناس من أرضهم. والحقيقة أن أدواته الأولى لم تكن المعول ولا البذور، بل تكنولوجيا العنف، التي استُخدمت لفرض السيطرة والهيمنة. ومع ذلك، بيننا حتى اليوم من يتحدث عن احتلال فرنسا لمصر وإطلاق المدافع على الجامع الأزهر بأنه «صدمة الحداثة الأوروبية»، التي منها انطلقت نهضة مصر من خلال المطبعة، وتفسير ما كتب على حجر رشيد. الاحتلال جاء بعلم وعمار.
الوقائع التاريخية تناقض هذه السردية المضللة. لم تكن المجتمعات التي وقعت تحت الاحتلال أرضاً خاوية ولا زماناً عقيماً. مصر مثال حيّ؛ لم تكن أرضاً خراباً قبل الاستعمار بمائة عام أو ألف، بل كانت على مدى آلاف السنين مهد حضارات أنتجت الأهرامات ومعابد أبي سمبل وكوم أمبو وإدفو والكرنك ووادي الملوك. هذه الشواهد قائمة حتى اليوم لتؤكد أن العمران سبق الاحتلال الأوروبي بآلاف السنين. ما فعله الكولونياليون لم يكن إعماراً بل اقتلاعاً، ولم يكن بناءً، بل هدم بنيوي وإعادة تشكيل قسري للثقافة والمجتمع. وبذلك تكون كلمة «الاستعمار» خادعة؛ فهي تمنح، لغوياً، مسحة من الشرعية على فعلٍ هو في جوهره دماراً واستيطاناً وإحلالاً قسرياً وعنفاً مركباً؛ عنف ثقافي يتبعه عنف مباشر، يبرّره في النهاية عنف بنيوي ممتد.
من هنا، يطرح السؤال نفسه؛ ما البدائل اللغوية التي يجب أن يصوغها المثقف العربي؟ كيف نحرر أنفسنا من أسر لغة الغزاة التي تسرّبت إلى وعينا؟ إن إعادة تسمية الأشياء ليست مجرد ترف فكري، بل هي بداية فعل تحرري، لأنها تفتح المجال لتفكيك الرواية الاستعمارية وصياغة سردية محلية بديلة تعكس حقيقة ما جرى. استبدال المصطلحات هو مفتاح تحرر العقل وبداية صناعة خطاب جديد عن الاحتلال والاستيطان والإبادة.
اليوم، أمام أعيننا، تكشف فلسطين منذ عقود، وبوحشية مضاعفة في السنوات الأخيرة، عن بشاعة الاحتلال وبشاعة الإحلال الاستيطاني. نرى رجلاً جاء من بولندا أو نيويورك ليقتلع شجرة زيتون أمام بيت عائلة فلسطينية، ثم يحتل البيت ويطرد ساكنيه ويستولي على البساتين. هل يمكن أن نسمّي هذا «استعماراً» بالمعنى اللغوي الموروث؟ بالطبع لا. هذه ليست عمارة، بل إبادة بطيئة، ليست عمراناً بل خراباً ممنهجاً.
إنَّ الصور القادمة من غزة، التي تبثها كاميرات التلفزيون أو تسجلها هواتف المحمول اليوم تجعل بشاعة الاحتلال محسوسة وملموسة للجميع. لكن ما نراه الآن في فلسطين ليس جديداً؛ فقد عرفته ليبيا والجزائر من قبل، وربما على نطاق أوسع وأعنف، غير أن غياب الكاميرات جعل الذاكرة البصرية للتجربة أضعف. ومع ذلك، فقد أطلقنا على ما جرى هناك أيضاً كلمة «استعمار». فهل ما حدث في الجزائر أو الإبادة الجماعية الإيطالية الفاشية ومعتقل العقيلة في ليبيا، كان إعماراً أم خراباً؟ الجواب واضح؛ لقد كان إبادة منظمة استهدفت البشر والحجر واللغة والذاكرة.
إذن، نحن أمام إشكالية لغوية لا تقل خطورة عن الإشكالية السياسية أو العسكرية. إن قبولنا بمصطلح «الاستعمار» كما هو، فيه قدر من التواطؤ، ربما غير المقصود مع سردية الغزاة. اللغة هنا ليست بريئة؛ فهي إما أن تكون أداة تحرر أو أداة قمع. وعليه، فإن تحرير اللغة هو الخطوة الأولى لتحرير العقل، ومن دون هذا التحرير لا يمكن أن نبني سردية محلية أصيلة تعكس حقيقة تجربتنا مع الاحتلال.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في معجمنا السياسي والثقافي. ما يجري في فلسطين ليس «استعماراً» ولا «عماراً»، بل هو استيطان إحلالي عنيف. وما جرى في الجزائر وليبيا لم يكن «استعماراً»، بل إبادة واستعباد وتهجير قسري. اللغة الدقيقة هنا ليست مجرد وصف، بل هي جزء من المعركة نفسها. فإذا استعرنا لغة المحتل، استعرنا معها طريقته في التفكير، وبالتالي قبلنا، من حيث لا نشعر، منطقه في التبرير.
ومن هنا، يمكن القول إن بداية التحرير لا تكون على الأرض فقط، بل تبدأ في الرأس. ومن الرأس تبدأ عملية تحرير اللغة. فاللغة هي بيت المعنى، وإذا بقي هذا البيت محتلاً، فسيظل وعينا أسيراً. إن أول معركة نخوضها هي معركة الكلمات؛ أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، أن ننزع عن الاحتلال قناع «الاستعمار» الذي يوحي بالعمار، وأن نكشفه كما هو؛ خراب، وإبادة، واستيطان. حين نحرر اللغة نحرر العقل، وحين نحرر العقل نصوغ سرديتنا المحلية، ومنها يبدأ طريق التحرير الحقيقي.