: آخر تحديث

الرؤية السعودية في فضاء إقليمي متغيّر

2
1
2

تتحرك المملكة اليوم بثقة ووعي في فضاء إقليمي متشابك، تتنازع فيه القوى الإقليمية والدولية على رسم خرائط النفوذ الجديدة، إلا أن ما يميز الدور السعودي في هذه المرحلة أنه لا ينطلق من منطق الاصطفاف أو الدعاية، بل من منطق المسؤولية التي توازن بين الأمن والسياسة، وبين الواقعية والمبدأ.. حيث كشفت أحداث السابع من أكتوبر عن عمق هذا الدور؛ عندما اختارت الرياض موقع الاتزان حين انجرف كثيرون نحو الانفعال أو المزايدات، وقدّمت للعالم نموذجًا مغايرًا في التعامل مع الأزمات، يقوم على الفعل الهادئ لا على الخطاب الصاخب.

فالمملكة بقراءتها الدقيقة لمشهد ما بعد الحرب، أدركت أن الفراغ السياسي الذي خلفته العواصم الكبرى لا يمكن ملؤه إلا بمشروع عربي متوازن يحقق الأمن للجميع، ويعيد للقضية الفلسطينية مركزيتها الأخلاقية والسياسية. ومن هنا انطلقت الرؤية السعودية نحو إطلاق مسار سياسي يربط بين العدالة والاستقرار، ويعيد التوازن إلى المنطقة عبر مقاربة أكثر واقعية، وأعطت للسياسة العربية فرصةً نادرة للحديث بلغة واحدة بعد عقود من الانقسام.. وتبرز أهمية هذا التحول في أن المملكة باتت تدير سياستها الخارجية بأدوات متعددة: الدبلوماسية، والاقتصاد، والمبادرات الإنسانية، والشراكات الاستراتيجية مع الشرق والغرب على حد سواء. فحين تتحدث الرياض اليوم عن "حل الدولتين" فإنها لا تكتفي بالنداء الأخلاقي، بل تدعم موقفها بحشد سياسي واقتصادي واسع في الأمم المتحدة ومجموعة العشرين والقمم العربية والإسلامية، كما هو في المثال السوري، حيث كانت العودة السعودية إلى دمشق واحدة من أكثر الخطوات نضجًا في السياسة الإقليمية الحديثة، عندما أدركت المملكة أن استقرار سوريا جزء من استقرار المشرق العربي، فاختارت الانخراط المسؤول بدل الحياد.. وقد أثمرت هذه العودة عن إعادة الاعتبار للدور العربي في الشام، بعدما غابت العواصم العربية طويلاً وملأت الفراغ قوى خارجية ذات أجندات متعارضة.

لكن هذا النهج الواقعي لا يخلو من صعوبات حقيقية، فالإقليم يعيش مرحلة سيولة سياسية غير مسبوقة مع تراجع الثقة بالدور الأميركي، وتبدّل أولويات أوروبا، وتنامي حضور الصين وروسيا في المشهد الإقليمي. لكن الرياض وسط هذه المعادلات، تحافظ على خطاب عقلاني يوازن بين الشراكة مع القوى الكبرى والاستقلال في القرار، مستندة إلى ما تمتلكه من ثقل اقتصادي، واحتياطي استراتيجي في الطاقة، وموقع ديني يجعلها مرجعية معنوية للعالم الإسلامي.

الرياض اليوم لا تُسابق أحدًا في الظهور، بل تترك للأحداث أن تشهد على فعلها، وللنتائج أن تتحدث عنها. فهي تدرك أن السياسة الفاعلة ليست في صخب التصريحات، بل في قدرتها على التغيير وتحقيق المصالح المشتركة. لذلك لم تُضخّم المملكة منجزاتها في مؤتمر نيويورك لحل الدولتين، ولم تحتفل بالحشد الدولي الذي قادته، بل تركت الحقائق تروي القصة لأن الرؤية السعودية الجديدة لا تسعى إلى الانتصارات الصغيرة أو اللحظية، بل إلى إعادة تعريف مفهوم الدور الإقليمي نفسه؛ من التنافس إلى التكامل، ومن المواجهة إلى الشراكة.. حيث تعمل على صياغة توازن جديد في المنطقة، يربط بين التنمية والاستقرار، ويمنح الشعوب العربية أفقًا مختلفًا للمستقبل.. ويؤكد أن شجاعة إطفاء الحروب أعظم من حماقة إشعالها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد