: آخر تحديث

القراءة نجاة

4
3
3

سارا القرني

لم تعد القراءة ترفًا ثقافيًا، ولا هواية جانبية تُمارَس في أوقات الفراغ، بل أصبحت ضرورة وجودية في زمنٍ تتسارع فيه المعرفة، وتتشابك فيه الأصوات، وتزداد فيه محاولات تشويش الوعي. القراءة اليوم هي أحد أشكال النجاة؛ نجاة العقل من السطحية، ونجاة الوعي من الانسياق، ونجاة الإنسان من الوقوع أسيرًا لفكرة واحدة أو رأيٍ مُعلَّب.

وترتبط معارض الكتب ارتباطًا وثيقًا بهذه النجاة، فهي ليست مجرد مناسبات لبيع الكتب أو استعراض دور النشر، بل مواسم وعي، ومساحات مفتوحة لإعادة ترتيب علاقتنا بالمعرفة. في هذه المعارض، لا نشتري كتبًا فحسب، بل نختار اتجاهاتنا الفكرية، ونحدد أي الأصوات سنسمح لها أن تسكن عقولنا.

الكتاب الجيد لا يمنح القارئ إجابات جاهزة، بل يعلّمه كيف يطرح السؤال، وكيف يشك، وكيف يبحث، وكيف يصل. والقراءة الحقيقية لا تُراكِم المعلومات بقدر ما تُنقّي الوعي، وتمنح الإنسان قدرة أعمق على الفهم والتحليل، والتمييز بين الحقيقة والزيف، وبين الرأي والمعرفة.

ومع ازدحام المواسم الثقافية، وتعدد الإصدارات، تصبح القراءة معركة مع الوقت، ومع الإغراء، ومع السطحية. معركة البحث عن المفيد وسط آلاف العناوين، والقدرة على اختيار ما يضيف لا ما يستهلك، وما يوسّع المدارك لا ما يملأ الرفوف فقط. هنا تكمن مسؤولية القارئ؛ أن يكون انتقائيًا، واعيًا، مدركًا أن كل كتاب يقرؤه يترك أثرًا، إما يرفع وعيه أو يستهلك طاقته دون جدوى.

استغلال معارض الكتب لا يكون بكثرة المشتريات، بل بحسن الاختيار. كتاب واحد قادر على تغيير زاوية الرؤية، أصدق من عشرات الكتب التي لا تترك أثرًا. القراءة ليست سباق أرقام، بل رحلة وعي، تبدأ من السؤال ولا تنتهي عند الصفحة الأخيرة.

وفي زمن التقنية السريعة، تظل القراءة الورقية فعل مقاومة راقٍ، وهدوءًا مقصودًا في عالم صاخب. هي عودة بطيئة إلى الذات، وإلى التفكير العميق، وإلى الحوار الداخلي الذي يصنع إنسانًا أكثر وعيًا، وأكثر اتزانًا.

القراءة نجاة.. لأنها تحرر العقل، وتمنح الإنسان قدرة على فهم ذاته ومجتمعه والعالم من حوله. ومعارض الكتب ليست احتفالًا موسميًا عابرًا، بل فرصة حقيقية لإعادة بناء وعينا، وترميم علاقتنا بالمعرفة، واختيار الطريق الذي نريد أن نسير فيه بثبات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد