في المراحل التحوّلية المضطربة، كالمرحلة التي نعيشها، تعود إليَّ كلمة دوستويفسكي في مطلع روايته «الإخوة كارامازوف»، أنه «من الغريب في عصرٍ مثل عصرنا أن نطالب الناس بالوضوح»، مشيراً إلى المرحلة القيصرية المهتزّة في زمنه. والروائي الروسي كان يبرّر بذلك عوالم شخصياته المعقّدة المتناقضة.
ربما الأشخاص الكثر الذين نلتقيهم أو نشاهدهم في مرحلتنا المضطربة الراهنة، ونتبيّن من خلالهم عمق المتاهة التي نحن فيها، لم يكونوا ليحظوا بانتباه دوستويفسكي، المهتمّ بالحالات البشرية القصوى، بل بانتباه ابن المقفّع في «كليلة ودمنة»، أو لافونتين في «حكاياته» الشعرية، أو لابرويير في كتابه «الطبائع»... ولا بأس في أن نلقي الضوء على بعض نماذجهم التي تُظهِر لنا كل يوم عمق ضبابية العقل التي نرى ونعيش:
كنا متحلّقين حول طاولة في تلك الحديقة، وكان بيننا أشخاص من اتجاهات عدة. لفت نظري مدى تأثر بعضهم بخلافاته القروية في تحديد مواقفه من المسائل الوطنية الكبرى. كان يبدو جليّاً أن النزاع بين رئيس البلدية والمختار يشغل بالهم أكثر بكثير من مصير المحور الإيراني في لبنان والمنطقة، سواء تراجع أم لا، فالأمر سيّان، وأهم من سقوط نظام آل الأسد في سوريا، وأن محاولات الدولة اللبنانية استرجاع ذاتها وحصر السلاح في يدها وحدها، هي من آخر همومهم. وقد صرّح بثقة بالغة مَن يبدو أنه كبيرهم، بأنه لا يتعب نفسه في التفكير، وأنه ينتظر ما يصدر من مواقف عن الزعيم الفلاني (لا داعي لذكر اسمه) حتى يقف ضدها. وقد لاقى كلامه البائس، الذي يعترف فيه بأنه لا يفكّر وأنْ لا مواقف محدَّدة له من شيء، استحسان رفاقه وتأييدهم... يُرجّح أن يكون آلاف الناس على صورة هذا الرجل ورفاقه ومثالهم.
وفي مناسبة أخرى ومع جماعة أخرى، ذكرتُ أن التناقض الأساسي في الكيان اللبناني، منذ عام 1861 حتى اليوم هو التالي: الصراع بين المشروع اللبناني الهادف إلى الإفلات من نظام المحيط نحو أفق مختلف تندرج في أولوياته الحرية والانفتاح على الحداثة والثقافة والتعليم وقبول الآخر والسعي إلى نوعية الحياة البشرية، والمشروع الإقليمي في لبنان الهادف إلى إعادة دمجه في نظام محيطه، العثمانيِّ، والوحدويِّ السوريِّ بمختلف أشكاله، والوحدويِّ الأوسع، البعثيِّ والناصريِّ، والماركسيِّ الأمميِّ، وأخيراً الإيراني الإسلامي. لاقى رأيي موافقة الحضور الكاملة وإعجابهم وتمسكهم القوي بالمشروع اللبناني. وبعد قليل، وفي سياق الحوار نفسه حول موضوعات أخرى، أعلن أحد الحاضرين تأييده الدائم للزعيم الفلاني (لا داعي لذكر اسمه) الذي كان له الإسهام الكبير في تدعيم المحور الإيراني في لبنان لقاء منافع ومكاسب بحتة، من دون أن يدرك هذا الرجل مدى تناقضات عقله في تأييده الشيء ونقيضه معاً. لاحظت أنه لم يصدر عن الحضور أي رفض لكلامه. يتساءل المرء عن فائدة الحوار... تُرى أليس هناك آلاف الناس على صورة هذا الرجل ومثاله؟
وبين نجوم الشاشات الذين لا عدَّ لهم، يطلّ عليك هذا النجم بالمقولة التالية، التي باتت معمّمة وشائعة: لو كانت الدولة اللبنانية والجيش اللبناني قويَّين بما فيه الكفاية وقادرَين على مواجهة إسرائيل، لَسلَّم حزب المحور سلاحه لهما، حتى آخر قطعة سلاح لديه! ويتلقف عشرات آلاف الناس هذا الكلام بوصفه حجة دامغة لا تُرَدّ، تبرِّر احتفاظ الحزب بسلاحه... لكن ليس من يُدرِك أنه في ضوء التجارب الحربية وما آلت إليه، خصوصاً ما أظهرته من اختلال بالغ في موازين القوى، لا تجدي القوة العسكرية نفعاً بمعزل عن القوة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية الإقليمية والدولية. وليس هناك من يتذكّر أن الجيش اللبناني، الذي كان عديده عشرة آلاف رجل، صان الحدود الجنوبية عشرين عاماً، من 1949 إلى 1969، حيث كانت اتفاقية الهدنة مطبّقة من الطرفين. ولم تبدأ الكوارث إلا بعد أن تسلمت الحدود عام 1969 قوات «فتح لاند»، ووصلت إلى ذروتها المأساوية الآن في ظلّ قوات المحور. ثم متى كان يريد المحور حقاً أن تقوم في لبنان وفي سائر الأنحاء، دولٌ وجيوش قوية؟ على العكس من ذلك تماماً، بنى استراتيجيته ولا يزال، على إضعاف الدول والجيوش، لتسيطر تنظيماته المسلّحة الرديفة عليها، وتحلّ مكانها...
نماذج قليلة من متاهة العقول في عالمنا المضطرب، هي غيض من فيض، أنَّى لهذه المقالة أن تحتويه.