: آخر تحديث

مستقبل الحقائق والأكاذيب المحسنة تكنولوجيا

2
2
2

عبدالرحمن الحبيب

يقول المخرج فيرنر هرتزوغ: «في المجال العام، هناك تنويعات لا تُحصى على نسخٍ تشبه الحقيقة، قصصٌ تُوفر قدرًا من التنفيس العاطفي. خذ المصارعة المحترفة كمثال على مشهدٍ يتواطأ فيه الجمهور والمؤدون في روايةٍ زائفةٍ بشكلٍ واضح، لكنها تحمل جميع عناصر المنافسة المشروعة: الجميع يعلم أنها مُختلقة، ومع ذلك يشاركون جماعيًا لأنها تُتيح مساحةً للتعبير عن المشاعر الجماعية، أُسميها بديهية المشاعر.

مهما كان الشيء مُصطنعًا، فإن المشاعر دائمًا حقيقية... هذا النوع من «الحقيقة المُبهجة»، هو اتفاق بين المُعطي والمُتلقي، لكن ينبغي الحذر من النسخة المُتعالية من «الحقيقة الوهمية»، خاصةً الآن، حيث أصبح الإنترنت الناقل الرئيسي للأخبار، وبات من الصعب بشكل متزايد التمييز بين الحقيقة والخيال» (مارك وينغارتن، لوس أنجلوس تايمز).

هذا ما جاء في الكتاب الجديد لهرتزوغ بعنوان «مستقبل الحقيقة» الذي يمثل رحلة فنية للبحث عن الحقيقة وتقاطعها مع الأسطورة، عبر رصد لمحات تاريخية عن دور الحقيقة في مواجهة الأسطورة في الفن، حيث سجل فيها هرتزوغ مذكرات مفككة وحكايات متنوعة وأفكارا غريبة وأحياناً غامضة عن حياته ومسيرته المهنية الممتدة لأكثر من سبعة عقود يعتبرها بمثابة بحث فني عن الحقيقة، فالمؤلف إضافة إلى عمله السينمائي فهو مفكر وكاتب وشاعر.

إنما الكتاب ليس فلسفياً ولا للمساعدة الذاتية في كشف الحقائق كما يؤكد المؤلف، ومع ذلك، يُقدم نصيحة: طوّر قدراتك النقدية، تجوّل أكثر، واقرأ الكثير من الكتب في محاولة البحث عن الحقيقة.

هذا البحث حسب هرتزوغ هو في حد ذاته هدف أسمى من إيجاد الحقيقة، يقول، «إن السعي نفسه، إذ يقربنا من الحقيقة الغيبية، يسمح لنا بالمشاركة في شيء بعيد المنال بطبيعته، ألا وهو الحقيقة»؛ مضيفاً بأن الحقائق المجردة لا تقدم سوى «حقيقة محاسب» مملة، أقل فائدة مما يسميه «الحقيقة المبهجة» في مساعدة الناس على فهم حقيقة ما يجري في الحياة، فالقصص الخيالية تساعدنا بالتخلص من تعقيد الحقيقة وتوفير قدر من الراحة.

يعرض هرتزوغ آراءه حول الحقيقة في عالم تتكاثر فيه الأكاذيب المُحسّنة تكنولوجيًا، يقول في مكالمة عبر تطبيق زووم من منزله في لوس أنجلوس: «لقد رُكّبت مجتمعات بأكملها حول الأكاذيب، ونرى ذلك أيضًا في السياسة، عندما ننظر إلى الأخبار الكاذبة، وكل ما يُصنع من أساطير. بالطبع، هذا ليس جديدًا، لكنني شعرتُ أنه الوقت المناسب لتلخيص تجاربي مع الحقيقة».

يرفض هرتزوغ فكرة أن الدعاية من النوع الذي تجاهلته وسائل الإعلام في الاتحاد السوفيتي السابق على أنها تختلف كثيرًا عن الطريقة التي تُقدم بها الديمقراطيات الليبرالية الأخبار وتُهضمها الآن. يقول: «أعرف جيدًا ما حدث في الاتحاد السوفيتي لأن زوجتي من سيبيريا.

في الاتحاد السوفيتي السابق، كان الجميع يعلم أن ما كانوا يقرؤونه أكاذيب، أما في نظامنا، فلا نطرح هذه الأسئلة بعمق، وأعتقد أن وسائل الإعلام تُنشئ فقاعة من الروايات غير متوازنة للغاية. ليست أكاذيب صريحة، بل أكاذيب نتغافل عنها».

وإذا كان الخلط بين الحقائق والأساطير وبين الأخبار الصادقة والكاذبة معروفا وقديما، إلا أن هرتزوغ يرى أنه من سخرية القدر في لحظتنا الراهنة أن نمتلك معلومات أكثر من أي حضارة أخرى في التاريخ، ومع ذلك غالبًا ما نعجز عن استخلاص الحقيقة المُتفق عليها من هذا المستنقع غير المتناهي من المعلومات.

يُعزى هذا جزئيًا إلى تراجع وسائل الإعلام التقليدية وصعود الإنترنت، حيث يبدو أن لكل شيء حقيقيا أو مزيفا وزن متساو، بالإضافة إلى التحيزات الأيديولوجية والثقافية لعالمنا الفرداني المتطرف، حيث يمكن لـ«حقيقتي» الخاصة أن تحل محل الحقائق الثابتة.

يرى المؤلف أن العقل الذكي قادرٌ بشكل معقول على تمييز الأكاذيب في الوسائط القديمة، بينما الذكاء الاصطناعي حديثٌ جدًا وقويٌ لدرجة أن قدرتنا على كشفها ضعيفة جداً: «لقد نشأنا مع الراديو والتصوير الفوتوغرافي، علينا أن نفعل الشيء نفسه الآن مع الإنترنت».

ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟ بعد أن اختار له بعض الأصدقاء قصائد مُؤلفة باستخدام ChatGPT انبهر هيرتزوغ بجودتها، واصفاً إياها بأنها «أفضل من أي شيء قرأته تقريباً في مجال الشعر خلال العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية، يقول:»من الخطأ النظر إلى الذكاء الاصطناعي من منظور التفاؤل أو التشاؤم. نحن ندرك المخاطر. بعض الذكاء الاصطناعي يُستخدم بالفعل بنشاط في الحروب لكنه سيهيمن أيضاً على صناعة الأدوية، على سبيل المثال، وسيهيمن على صحة الإنسان. الأمر يتعلق أكثر بـ: «ما مقدار ما نحن على استعداد لتفويضه للذكاء الاصطناعي؟ هل نريد تفويض أحلامنا؟» إجابتي هي لا، فأنا راوي قصص، وبصفتي صانع أفلام، أعلم أن الذكاء الاصطناعي لن يُنتج أبداً أي شيء بنصف جودة أفلامي».

يقول هرتزوغ: «البحث عن الحقيقة شيء لم يفارقني قط، إنها تكاد تكون بعيدة المنال، سيقدم لك الفلاسفة إجابات مختلفة حول ماهية الحقيقة، هناك شيء ما في الطبيعة البشرية غرس فينا هذا البحث عن الحقيقة، لقد كان حاضرًا يوميًا في حياتي كمخرج وكاتب، ومع ذلك يجب ألا نغفل عن حقيقة أننا أيضًا نتوق إلى أن نُضلّل، وإلى أن نُقاد إلى شيء يمنع عدم إيماننا».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد