: آخر تحديث

إسرائيل والسلام بين فكر هوبس وشميت

3
4
2

بعد إعلانِ ترمبَ عن خطتِه للسَّلام أعلنَ نتنياهو أنَّه يجب أن تسلّم حماس الرهائن الأحياء والأموات، وتنزع سلاحَها، وحذَّرَها من أنَّه سيعاود الحرب إذا حاولت التملّص؛ وبعد تسليمِ حماس الرهائنَ الأحياء وبعض الأموات، ولأسباب لوجيستية، تأخر تسليمها الباقين، ففتح نتنياهو النَّار، وقلَّل المساعدات الإنسانية، مبقياً «سيف دموقليس» فوقَ رقاب أهل غزة. ونتنياهو، بعد انتصاره العسكري، ورغم خطة السَّلام المنحازة لإسرائيل، مصمّمٌ على بسط هيمنةٍ تتجاوز غزةَ لتشملَ المنطقة كلَّها. وفي سعيِه المحموم يدركُ مخاطرَ الانتقال بدولة إسرائيل من مفهوم الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس (شبه الليبرالي) إلى مفهوم المفكر الألماني كارل شميت (الاستبعادي). فالفيلسوف هوبز يمنح الحاكمَ صلاحيات مطلقة، لا يحدّها إلا حق الحياة، وحرية نسبية، لكي يتحققَ الاستقرار؛ بهذا سمح بتغوّل الدولة من أجل منع الفوضى الشاملة والاقتتال. كارك شميت، مفكّرُ النازية، يؤيد إعطاء الحاكم صلاحيات مطلقة ليحقق وحدة البلاد. كلاهما يريدُ وحدة البلاد، إنَّما يختلفان حول تعريف وحدة البلاد. هوبس يتطلّع لوحدة ليبرالية متعددة الأعراق، بينما شميت لوحدة عرقية صافية؛ الأول نادى بملكية مطلقة أنتجت بريطانيا الديمقراطية، والثاني أنتج فكره النازية الألمانية. نتنياهو الذي ورث دولة هوبسية يتعايش فيها بحرية نسبية أفراد متنوعون، جهد بكل قواه لإقامة دولة يتسيدها العرق اليهودي إيماناً بعقيدة توراتية، وقناعة ميكيافيلية بأنها الأسلم لمواجهة أخطار حقيقية أو متصورة.

هذا الانتقال من هوبس إلى شميت يفسر تماماً عنف الدولة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو في غزة، وفي الضفة الغربية، لأن هدفه إزاحة الفلسطينيين من الدولة اليهودية الصافية، واستملاك أراضيهم، دونما اهتمام بالقانون الدولي والإجماع العالمي. وهذا السلوك نابع من إيمانه بأن الأقوى يفرض والضعيف يُذعن. فالقانون الإسرائيلي (الأمر الإداري لعام 2003) حظر إعطاء الفلسطيني المتزوج من عربية أو إسرائيلية حق الإقامة الدائمة أو المواطنة إذا كان من الضفة الغربية أو غزة؛ الهدف منع لمِّ شمل العائلات الفلسطينية ليستقروا في قلب فلسطين.

هذا القرار، رغم صفته المؤقتة، يُجدَّد دائماً، وبموازاته يوجد قانون عام 1952 الذي يمنح حق التجنس والمواطنة الفوري لأي يهودي بحجة حق العودة. كما أن قانون الجنسية لعام 2008 خوّل السلطات الإسرائيلية حق إسقاط الجنسية من حاملها في حالات معينة، ودونما وجود حكم جرمي بحقه وذلك بهدف تقليل عدد الفلسطينيين في فلسطين. كما توجد قوانين أخرى تعطي اليهود كل الامتيازات السكنية، وتحظرها على العرب، بل تمنح السلطات حق مصادرة أراض تحت بند «غياب أصحابها» وهم فلسطينيون، وتمنحها للوافدين اليهود. ولعل قمة النقاء العرقي المغلف بالقانون تمثلت بقانون عام 2018 الناص على أن إسرائيل دولة يهودية صافية، وأن الاستيطان قيمة وطنية، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أن غير اليهود، إنْ لم يُرحلّوا، هم درجة ثانية وربما ثالثة. هذه القيود القانونية لم تفرض دفعة واحدة بل جاءت متدرجة عبر سنوات من قيام دولة إسرائيل، إلا أنها تسارعت في العقدين الأخيرين، والهدف الواضح تغيير الواقع الديموغرافي بطلاء القانون لضمان مقولة إن إسرائيل دولة ديمقراطية ليبرالية.

بعد عملية طوفان الأقصى سرّعت دولة إسرائيل بإشراف نتنياهو تطبيق مفهوم كارل شميت القائل بإزالة الأغيار (غير اليهود) من أراضيهم بالقوة لتحقيق وحدة البلاد، وحماية أمنها من أعداء الداخل، ومنع تكرار طوفان الأقصى. وقد بلغ التطبيق درجة من العنف ارتقى حسب قرار محكمة العدل الدولية لما يشبه الإبادة الجماعية، وقرار المحكمة الجزائية الدولية بأن نتنياهو ووزير دفاعه وآخرين مجرمو حرب. لكن استمرار العنف الإسرائيلي، والقتل، حمل لجنة أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على القول إن ما تفعله إسرائيل هو إبادة جماعية كاملة الأوصاف؛ والإبادة الجماعية بالمعنى القانوني هي استخدام العنف بنيّة تدمير جماعة عرقية معينة. وأكدت اللجنة أن الإبادة تستهدف إخراج الفلسطينيين بالقوة من غزة أو إبادتهم. هذا الوصف القانوني والواقعي يجسد فعلياً دعوة كارل شميت منظّر النازية الألمانية التي ارتكبت جريمة المحرقة المفجعة. ومن سخرية المصادفة أن مرتكبي الإبادة في غزة هم ضحايا المحرقة والإبادة.

هذا الفكر الإبادي يستمدُّ نسغ تبريراته من نظرية النقاء العرقي لضمان وحدة الأمة، وقد شهدنا في عقد التسعينات مثيلاته في البوسنة والهرسك، وذهب ضحيته مئات الآلاف من المسلمين الأبرياء قتلاً وحصاراً وتجويعاً. وكما تعلمنا في البوسنة والهرسك أن هذا السلوك الإبادي لا يمكن وقفه بآليات دستورية بل بقرار دولي أو إقليمي. ولعل تدخل ترمب مؤخراً، وفرضه خطته الضبابية قد يوقفان الإبادة، إلا أن تحقيق السلام الحقيقي يتطلب أولاً إجبار نتنياهو، ولو بالقوة، على نبذ فكر كارل شميت الألماني النازي، وتعديل خطته للسلام لتستجيب أكثر لتطلعات الفلسطينيين، وإلا فسيكرر التاريخ نفسه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد