عبداللطيف الضويحي
ضربة جديدة يتم تسديدها للعلاقات الاجتماعية البشرية، إثر سلسلة من الضربات المتراكمة التي تدفع بالإنسان باتجاه العزلة الفردية والخوف وعدم الأمان نتيجة لتدهور الثقة بالآخرين حتى بين أقرب المقربين.
لا أحد يمكنه التنبؤ بالمآلات التي ستصيب مفاصل المجتمعات البشرية، جرّاء انتشار فيديوهات التزييف العميق التي يتم توليدها من الذكاء الاصطناعي، والتي أصبحت تضيّق الخناق تدريجياً على ما تبقى من الحقيقة والتشكيك بمصادرها ومرجعياتها. وخلق عالم بديل وغريب من عدم اليقين بين بني البشر.
لا أحد يمكنه أن يتنبأ بحجم الكارثة التي يمكن أن تعيشها المجتمعات البشرية، أو تتكبّدها العلاقات بين الأفراد وبين المؤسسات وبين الدول، عندما تنعدم الثقة أو تهتز في مثل هذه الظروف غير المسبوقة، والتي سيترتب عليها الخوف والريبة والشكوك في النيات والقرارات والأفعال حتى من أقرب المقربين، فضلاً عن الحذر الدائم والترقب والتوجس، والذي سينعكس حتماً على تدهور سلوك الاتصال والتواصل والشفافية والصراحة والأمان بين الناس، والذي سيترتب عليه تفكك العلاقات الأسرية وتدهور العلاقات وتوترها.
سوف تسود الفردية وتستفحل الأنانية، وكل فرد يحتفظ بأسراره ويعمل لنفسه، ناهيك عن الجفاف العاطفي والإنساني. بجانب تدهور العمل الجماعي والتعاوني بين الناس نتيجة لاهتزاز الثقة أو انعدامها.
إن الفيديوهات المولّدة من الذكاء الاصطناعي القائمة على التزييف العميق بقدر ما فيها من احترافية في صناعة التسلية والترفيه والمتعة، إلا أنها صناعة مستقبلية تؤسس في بعض منها لعالم من عدم اليقين القائم على المزج الهجين الخطير بين الحقيقة والخيال، وهو ما ينطوي على صناعة عالم يقوّض الحقيقة المطلقة والنسبية ويزيّف الوعي ويسمّم العلاقات بالمجتمعات وبالمؤسسات ويشكّك بالتاريخ وينسف القيم والمؤسسات الرسمية بما فيها التعليم.
من الخطورة بمكان أن تتصدع ثقة الرأي العام بالمؤسسات الرسمية والشخصيات الرسمية والمصادر والمرجعيات الرسمية والمؤثرة، وهو ما يقتضي إجراءات تشريعية استباقية عاجلة للحيلولة دون تضليل الرأي العام وخلق الفوضى وعدم اليقين والتشكيك وتدهور المصداقية خاصة بين بعض فئات الرأي العام.
كما أن هناك حاجة ملحة لإجراءات تعزيز وتمكين للإجراءات الحالية، وذلك للحيلولة دون تشويه سمعة الأشخاص بصفتهم الشخصية أو المهنية أو الرسمية لخطورة تفشي مثل هذه الظاهرة ولما لها من تأثير سلبي وخطير على قدوات المجتمع وقيم المجتمع وأخلاقياته، بجانب الأثر النفسي المؤذي لتلك الشخصيات على الصعيد الشخصي والمهني والحياتي.
كما أن المؤسسة القضائية والقضاة والمحامين معنيون بهذه المشكلة بشكل خاص نظراً لما تفرضه هذه الفيديوهات على المؤسسات القضائية والقضاة والمحامين وتتسبّب به من عدم اليقين بالأدلة الرقمية في المحاكم التي تأخذ بهذه الأدلة، حيث يتعذر التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزور في كثير من الحالات، وهو ما يهدّد مصداقية الأدلة الرقمية وينسف أسس العدالة.
أخيراً، قد تكون ظاهرة فيديوهات ما يسمى «التزييف العميق» لا تزال تؤثر في الهامش المنخفض، لكن الاحترافية حتماً ستجعل منها صناعة ذات مردود مالي كبير، كما أن الصراعات الدولية ستجد في هذا النوع من المحتوى سلاحاً فتاكاً للتلاعب من خلاله بالرأي العام لتحقيق مصالح بعض الدول من خلال خلق الاضطرابات والفتن التي تقوض الأمن والسلم الأهلي في الدول المستهدفة. وليس مستبعداً أو مستغرباً إذا ما تأكدت العلاقة بين ظاهرة الفيديوهات القائمة على أنصاف الحقائق والظاهرة المنتشرة في بعض الدول والمسماة حركة جيل Z أو جيل زد، فنحن في عصر لا مجال فيه للصدفة أو التصادف.