: آخر تحديث

سكتت المدافع والأبواق ما سكتت

1
1
1

علي عبيد الهاملي

سكتت أصوات المدافع في غزة، وتوقفت طبول الحرب التي دوّت في أرجاء المنطقة لأشهرٍ طويلة، حتى ظنّ الناس أن لا نهاية لها. هدأت السماء أخيراً بعد أن كانت تشتعل بالنار والدخان، وخرج الأطفال من تحت الركام يبحثون عن بقايا لعبهم، وعن لحظة أمان افتقدوها طويلاً. في تلك اللحظة، أدرك العالم أن الحرب ليست بطولة، وأن البطولة الحقيقية لمن أوقفها، لا لمن أشعلها.

جاء هذا الصمت بعد جهود مضنية قادتها دول الاعتدال العربي، التي وضعت نصب أعينها هدفاً واحداً، هو حقن دماء الأبرياء، وإنقاذ ما تبقّى من إنسانية في مشهد غابت عنه الإنسانية طويلاً. دول لم ترفع راية الشعارات، ولم تتاجر بآلام الناس، بل آمنت بأن العمل الدبلوماسي الصادق أقوى من خطب المزايدين، وأن طريق التهدئة، وإن كان أطول وأصعب، يبقى أرحم من طريق الحرب الذي لا يقود إلا إلى المقابر.

في المقابل، لم تصمت أبواق المزايدة. ظلّت تصرخ من بعيد، تشتم وتخوّن وتتهم، كأنّها وحدها تملك مفاتيح الوطنية والعروبة، متناسيةً أن من يجلس في برجه العالي لا يسمع صراخ الأطفال تحت الأنقاض، ولا يرى الأمهات اللواتي يودّعن أبناءهن كل صباح دون أن يعلمن ما إذا كانوا سيعودون إليهنّ أم لا.

أولئك الذين يتهمون دول الاعتدال بالتخاذل، لم يقدّموا لغزة سوى الكلمات، ولم يرسلوا إليها إلا الخطابات النارية التي لا تملأ بطون الجائعين ولا تواسي قلوب الثكالى.

الحقيقة التي يهرب منها هؤلاء هي أن الحرب التي أشعلتها حركة «حماس» والفصائل المتحالفة معها لم تكن من أجل فلسطين بقدر ما كانت حرباً من أجل البقاء السياسي، وإفشال جهود دول الاعتدال العربي لإرساء السلام مع حفظ حقوق الشعب الفلسطيني.

كانت الحرب لعبة خطرة في موازين القوى الإقليمية، زُجّ بأهل غزة في معركةٍ لم يختاروها، ومع عدوٍّ لا يعرف الرحمة، ولا يحترم قانوناً دولياً ولا قيمةً إنسانية. ومع كل قذيفةٍ كانت تُطلق، كان طفل يموت، وبيت يُهدم، وحلم يُدفن تحت الركام.

أما دول الاعتدال العربي، فقد اختارت طريقاً آخر. طريق الحكمة والعقل. اختارت أن تتحدث لغة الفعل الناجع، لا لغة الصراخ في الشوارع. أدركت أن نصرة القضية الفلسطينية لا تكون بالمظاهرات ورفع الشعارات، بل بإيقاف نزيف دم الشعب الفلسطيني المستمر منذ عقود. وأن حماية الإنسان الفلسطيني اليوم واجبٌ لا يقل قداسة عن حماية الأرض التي يقف عليها.

لقد دفعت هذه الدول ثمناً سياسياً ومعنوياً كبيراً، لأنها قالت ما يجب أن يُقال، وفعلت ما يجب أن يُفعل. دافعت عن حق الفلسطينيين في الحياة، لا في الموت. طالبت بإنقاذ غزة من الجوع والدمار، لا بإرسالها إلى محرقة جديدة. ومع ذلك، لم تسلم من الاتهامات الجاهزة التي يطلقها كل من يجد في الشتائم وسيلةً سهلةً لإثبات بطولته على الشاشات، وفي وسائط التواصل الاجتماعي.

لكن التاريخ لا يُكتب بالشعارات. التاريخ يكتبه الذين يصنعون الفارق على الأرض. من ينقذ طفلاً واحداً من الموت أعظم ممن يكتب ألف خطبةٍ عن الشهادة. ومن يفتح باباً صغيراً للسلام، أنبل ممن يفتح ألف جبهةٍ للحرب. دول الاعتدال العربي اختارت أن تكون في صف الإنسان، وهذا يكفيها شرفاً.

سكوت أصوات المدافع لا يعني أن المعركة انتهت، بل إن مرحلة جديدة بدأت، معركة الإعمار، ومعركة الوعي، ومعركة مواجهة الكراهية التي تغذت على رماد الحروب. هنا، يجب أن يعلو صوت العقل من جديد، وأن ندرك أن المنطقة لا تحتمل حرباً أخرى، وأن غزة لا تحتاج مزيداً من الخطابات، غزة تحتاج من يعيد بناء مدارسها ومستشفياتها وبيوت أهلها، والأهم من هذا كله؛ أن يرمم قلوب أبنائها.

الذين يهاجمون دول الاعتدال اليوم سيكتشفون غداً أن صوت العقل الذي هاجموه كان هو المنقذ الوحيد من جنون الحرب. وسيعرفون أن السياسة ليست انفعالاً، بل مسؤولية، وأن الكلمة قد تُنقذ أحياناً ما لا تنقذه المدافع. فسلامٌ على من اختاروا طريق الحكمة وسط ضجيج الغضب، وسلامٌ على من آمنوا بأن دماء الأبرياء أغلى من كل المزايدات. أما أولئك الذين يرفضون أن يرفعوا من فوق أعينهم الغشاوة، فلا نملك إلا أن ندعو لهم بالهداية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد