: آخر تحديث

من يصنع هويتك: أنت أم الآخرون؟

3
3
3

توصل البروفسور يوناس فريسن، بمعهد كاروليسكا في استوكهولم، إلى أن أجسامنا تتغير كل يوم. ويتغير جسم الشخص البالغ كله تقريباً، خلال فترة تتراوح من 7 إلى 10 سنين. خلايا البشرة، تتجدد كل أسبوعين تقريباً. وخلايا الدم الحمراء، تعيش أربعة أشهر. وخلايا الكبد تعيش ما بين 300 و500 يوم.

نحن لا نلاحظ -على الأرجح- تغيّرات أجسامنا، لأننا في الأساس لا نعرف إلا القليل عن مئات الملايين من الخلايا، التي تتألّف منها أجسادنا، ولذا لا نلاحظ فناء أي منها، لكننا نلاحظ بالتأكيد أن العالم الذي نعيش فيه يتغير باستمرار. كما تتغير معرفتنا بهذا العالم. تموت أشياء في ذاكرتنا، وتحل محلها أشياء أخرى: الناس الذين نلتقيهم، والتجارب التي نخوضها، والمعارف التي نكسبها، وساعات الحزن والفرح التي نمر بها.

كثير ممن تأمل في مسألة الهوية، بدأ من هذه النقطة على وجه التحديد، من سؤال بسيط: أي سر وراء هذا الشعور العميق باستمرارية الهوية؟ نفسي التي عرفتها في الطفولة هي نفسي التي أعرفها اليوم، وستظل معي حتى نهاية العمر. هذه إشارة أولى إلى أن شخصيتي التي تتغير باستمرار في مسار الحياة، تنطوي في الحقيقة على ماهية مزدوجة، أي هويتَين أو مستويَين من التعريف: الهوية الأولى التي تصاحبني منذ أن تعرفت للمرة الأولى إلى اسمي ولوني وجنسي وعائلتي، وحتى نهاية حياتي. هذه العناصر تؤثر بعمق على نظرتي إلى نفسي ونظرة الآخرين إليّ. والهوية الأخرى أو المستوى الآخر هو الذي اكتسبته لاحقاً من خلال التفاعل مع البشر الذين أتعرف إليهم، والطبيعة المحيطة بي، ومن تفكيري في ذاتي وفي عالمي أو تفاعلي معه.

سؤال «من أنا؟» قد يشير إلى الوجود المادي للشخص، مثل كونه ذكراً أو أنثى، شاباً صغيراً أو شيخاً كبيراً، لكن هذه الأوصاف ليست عظيمة الأهمية في ذاتها، إنما ترتفع قيمتها أو تهبط، تبعاً لما تنطوي عليه من معانٍ في رأي الناس الذين أتعامل معهم، أي ما نسميه «العرف العام». ومن هنا فنحن بحاجة إلى معرفة المحيط الاجتماعي للشخص، والقيم التي يلقيها على كل عنصر من مكونات هويته. على سبيل المثال، نحتاج إلى معرفة الموقف الاجتماعي من المرأة: في مجتمع مثل أفغانستان والعديد من المجتمعات الريفية التقليدية، لن يسمح للمرأة بمعيشة معقولة خارج بيتها الخاص. أما في ألمانيا مثلاً، فيمكن لسيدة أن تصل إلى منصب رئيس الدولة. هذا يشير إلى معنى الفارق الجنسي في ثقافتَين مختلفتَين، وما يتبعه من اختلاف جذري في نوع المعاملة للذكر والأنثى في هذا البلد أو ذاك. كذلك الحال لو كان الشخص أبيض البشرة في مجتمع غالب أعضائه من السود، أو كان أسود البشرة في مجتمع أبيض. فارق اللون تترتب عليه فوارق في العلاقة بين الفرد والجماعة، وبالتالي مكانة الفرد فيها وتوقعاته منها. وهذه العلاقة تُسهم في تحديد فهم الإنسان لنفسه وللمحيط الاجتماعي. كما تُسهم في تحديد الطريقة التي يستعملها الإنسان في تقديم نفسه إلى هذا المحيط.

يوضح المثال السابق دور «الآخرين» في تحديد القيم المؤثرة في تشكيل الهوية الشخصية. وسوف نتعرف تالياً إلى حقيقة أن مشاركة كل منا في تشكيل هويته، مشروطة إلى حد كبير بالحدود التي تفرضها البيئة الاجتماعية التي نتعامل معها. خذ مثلاً العقيدة التي أدين بها، واللغة التي أتحدثها، والتي تؤثر بعمق في طريقة تفكيري واتجاهاتي، وكذا اللباس وطريقة العيش ونظام التعامل مع الناس، أي مجموعة الأعراف والنظم التي تحدد لي ما يمكن فعله وما لا يمكن، فهذه كلها يستلهمها الفرد من الأشخاص المحيطين به. وبناء على فعل الفرد وانفعاله، ورد فعل المحيط، يتحدد موقع الفرد في النظام الاجتماعي والمعايير الناظمة لعلاقته مع الآخرين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد