في السودان، لم تعد الحرب اشتباكاً بين قوتين، بل صارت مجزرةً مفتوحة تُدار بعقلية المليشيا، ويُقاومها الجيش بوصفه آخر ما تبقّى من فكرة الدولة.
ما يجري ليس صراع نفوذ، ولا خلافاً سياسياً قابلاً للحل، بل ذبحٌ منظّم لوطنٍ كامل، تنفّذه مليشيات لا تؤمن إلا بالغنيمة، ولا تعرف من الحكم سوى فوهة البندقية.
السودان اليوم يُذبح لأنه بلا دولة قوية تحميه، ولأن المليشيا قررت أن تحلّ محل الوطن. هذه المليشيات لا تريد إصلاحاً، ولا انتقالاً، ولا عدالة، ولا حتى سلطة مستقرة. هي تريد الفوضى نفسها، لأن الفوضى هي البيئة الوحيدة التي تسمح لها بالبقاء، والنهب، والتوسع، والتكاثر. هي لا تحارب خصماً، بل تحارب معنى السودان ذاته.
الخرطوم التي كانت مدينة تحوّلت إلى ساحة انتقام. الشوارع التي كانت تعج بالحياة صارت ممرات للموت. البيوت التي كانت تحمي أهلها صارت أهدافاً مفتوحة. المليشيا دخلت المدن لتجريدها من كل ما يجعلها مدينة: الأمن، والكرامة، والإنسان. لم تترك مدرسة إلا ونهبتها، ولا مستشفى إلا ودمّرته، ولا حيّاً إلا وحوّلته إلى ثكنة خوف.
دارفور تعيش الفصل الأكثر وحشية في هذه المأساة. هناك، لا حرب بالمعنى التقليدي، بل إبادة بطيئة. قتل على الهوية، حرق للقرى، تهجير قسري، اغتصاب كسلاح، وتجويع كوسيلة إخضاع. المليشيا هناك لا تخفي نواياها، ولا تتظاهر بأي خطاب سياسي. هي تمارس القتل بوصفه حقاً مكتسباً، وتعتبر الأرض والإنسان غنيمة حرب.
في المقابل، يقف الجيش السوداني، مثقلاً بالتاريخ، ومثخناً بجراح الغدر، لكنه واقف. قد يكون جيشاً أخطأ في الماضي، وقد يكون تأخر في الإصلاح، لكنه اليوم ليس طرفاً في الجريمة، بل هو السد الأخير أمام انهيار كامل. الجيش لا يقاتل من أجل جنرال، بل من أجل ألا يتحول السودان إلى صومال جديد، أو ليبيا أخرى، أو دولة بلا اسم.
الفرق بين الجيش والمليشيا ليس تفصيلاً. الجيش، مهما كانت ملاحظاتنا عليه، هو مؤسسة دولة. يخضع لمنطق القانون، ويُحاسب سياسياً وتاريخياً، أما المليشيا، فهي مشروع فوضى دائم. لا تعترف بحدود، ولا بقانون، ولا بأخلاق. اليوم تدّعي المظلومية، وغداً تمارس الطغيان، وبعده تبيع الوطن قطعة قطعة لمن يدفع أكثر.
المليشيا لا تحارب وحدها. خلفها شبكات تمويل، وتجارة ذهب، وسلاح عابر للحدود، وأطراف إقليمية ودولية ترى في السودان فرصة لا مأساة. ترى فيه منجماً لا شعباً، وممراً لا وطناً. وكلما طال أمد الحرب، زادت أرباحها، وتعمّق الخراب.
أما الجيش، فيقاتل في ظروف قاسية: حصار إعلامي، تشويه سياسي، ضغوط دولية تطالبه بالجلوس مع من يقتل شعبه. يُطلب منه الحياد أمام مجازر، والمرونة أمام ذبح، والتسوية مع من لا يؤمن إلا بالسلاح. يُطلب من الدولة أن تساوي نفسها بعصابة، ومن المؤسسة أن تصافح الجريمة.
العالم، في معظمه، اختار المنطقة الرمادية. لا يريد انتصار الجيش لأنه يعني عودة الدولة، ولا يريد هزيمته الكاملة لأن الفوضى قد تخرج عن السيطرة. يريد حرباً منخفضة الحدة، عالية الاستنزاف، تُبقي السودان ضعيفاً، مفتوحاً، قابلاً للاستخدام. وهذه هي أقسى أشكال الخيانة.
الشعب السوداني هو الضحية الكبرى. بين مطرقة المليشيا وسندان التجاهل الدولي، يُترك وحيداً. لا كهرباء، لا ماء، لا دواء، لا أمان. أطفال يولدون في الملاجئ، ويموتون قبل أن يعرفوا معنى الوطن. نساء يُغتصبن لأن الدولة غائبة في مناطق سيطرة المليشيات، ورجال يُقتلون لأنهم لم ينضموا إلى القاتل.
ومع ذلك، ما زال هناك أمل. الأمل في أن يصمد الجيش، لا بوصفه قوة عسكرية فقط، بل بوصفه نواة إعادة بناء الدولة. الأمل في أن تُهزم المليشيا، لا انتقاماً، بل إنقاذاً لما تبقّى. الأمل في أن يفهم العالم أن دعم الجيش ليس دعماً للاستبداد، بل رفضاً للفوضى.
السودان لا يحتاج حلولاً تجميلية، ولا مؤتمرات بلا أثر، ولا بيانات قلق. يحتاج موقفاً واضحاً: لا للمليشيات، نعم للدولة. لا للسلاح الخارج عن القانون، نعم للمؤسسة الوطنية. لا لذبح الوطن، نعم لبقائه.
هذه ليست معركة جيش ضد مليشيا فقط، بل معركة معنى. معنى أن يكون هناك وطن اسمه السودان، أو مجرد أرض تتقاسمها البنادق. وفي هذه المعركة، كل حياد خيانة، وكل صمت مشاركة، وكل مساواة بين الجيش والمليشيا جريمة أخلاقية.
السودان يُذبح، نعم. لكن ما زال هناك من يقف بين السكين والعنق. اسمه الجيش. وكل ما عداه خراب.


