منيرة أحمد الغامدي
هل جرّبت أن تجلس في بهو فندقٍ أو مقهىٍ على الطريق حيث الناس يعبرون بلا أسماء والحركة لا تهدأ؟ أن تختار زاوية تطلّ على العابرين وتترك لعينيك مهمّة الإصغاء دون أن تنطق كلمة؟ تلك اللحظات التي لا يحدث فيها شيء على السطح تكون غالبًا اللحظات التي يحدث فيها كل شيء في الداخل. أنت لا ترى وجوهًا فحسب بل ترى مساراتٍ من حياةٍ تمشي بجوارك فتلك امرأة تتفحص الوقت في ساعتها قبل لقاءٍ يبدو مهمًا وشابٌّ يمرّ مسرعًا كأنّه يحمل ميعادًا مع قَدَرٍ ينتظره وهذا رجلٌ يتفحّص شاشة هاتفه بعينٍ تائهة وكأنه يبحث في الرسائل عن ماضٍ تسرب منه. كل حركة وكل التفاتة وكل تنهيدةٍ عابرة هي سطرٌ من قصة لا نقرأها لكنها تُروى في صمتٍ كثيف.
في تلك الأماكن العابرة يتقاطع الناس كخيوطٍ على نولٍ خفيّ ولا أحد يعرف الآخر ومع ذلك هناك خيطٌ دقيق من المعنى يجمعهم وهو الانتظار. ينتظرون شيئًا ما أو موعدًا أو طائرة أو ربما مكالمة وقد تكون لحظة وضوح. حتى من يبدو في عجلةٍ من أمره يخبئ داخله انتظارًا مؤجلًا. نحن لا نجلس في المقاهي لنشرب القهوة فحسب بل لنستعيد شيئًا من الإيقاع الذي أفلت منّا ولنقنع أنفسنا أن العالم ما زال يمشي بالسرعة التي نستطيع احتمالها. تتأمل الوجوه وتفكر كم من هذه الوجوه يحمل قلقًا لا يُرى؟ كم من ابتسامةٍ أُتقنت كي تُخفي ارتباكًا داخليًا؟ كم من النظرات تحمل رجاءً لم يُقل بعد؟ الناس جميعًا يشبهون صفحاتٍ مفتوحة في كتابٍ واحد غير أن الريح تقلبها بسرعةٍ لا تسمح لنا بالقراءة.
في المقاهي والفنادق ترى الإنسان في حالته الخام لا ألقاب ولا سياقات ولا دروع والكل متساوٍ أمام اللحظة العابرة. من يرتدي ساعة فاخرة يجلس على الطاولة ذاتها مع من يملك كوبًا واحدًا ووقتًا فائضًا. المقهى بهذا المعنى ليس مكانًا للاستراحة فقط، بل مختبرٌ صغير للحياة تُرى فيه المراتب الاجتماعية تُذوَّب في فنجانٍ واحد وتُسمع فيه اللغات المختلفة تتقاطع على إيقاعٍ واحد وهو رغبة في أن يُلاحظنا أحد.
كم هو غريبٌ هذا الإنسان يبحث عن الوحدة فإذا وجدها خافها ويبحث عن الآخرين فإذا اقتربوا أكثر مما يجب هرب منهم. في المقاهي ندخل كي نكون مع الناس لا لنكلمهم، بل فقط لنشعر أننا لسنا وحدنا في هذا العالم الذي يركض. ولأننا نملك ميلًا فطريًا إلى الحكاية تبدأ عقولنا -دون وعي- في نسج القصص للعابرين. نمنحهم أسماءً ونخمّن وجهاتهم ونعيد تشكيل الماضي الذي لم نعرفه ونرى في ملامحهم ما نريد أن نراه في أنفسنا. ربما نكتب لهم نهايةً سعيدة كي نُطمئن قلوبنا أو نُسقط عليهم ما نخشى الاعتراف به في داخلنا. تلك القصص التي نؤلفها في لحظةٍ عابرة ليست ترفًا خياليًا بل آلية بقاءٍ داخلية ونحكي كي نفهم ونخمن كي نهدأ ونتأمل كي نتذكّر أننا جزءٌ من نسيجٍ بشريٍّ واحد مهما تفرّقت طرقنا.
في البهو الهادئ تدرك أن كل إنسانٍ تراه هو نافذةٌ مفتوحة على عالَمٍ كامل. المرأة العجوز التي تمسك حقيبتها الصغيرة كأنها تمسك عمرها كي لا ينزلق ما تبقى منه في دوامة الحياة، والشاب الذي يحدق في اللا شيء بعد مكالمةٍ أنهت فصلاً من حياته والطفل الذي يركض بين الكراسي يضحك دون أن يدرك أن أحدًا في الزاوية يراقبه بعيون كلها أمل ودعاء. في لحظةٍ ما تدرك أنك لا تراقب الآخرين فحسب، بل ترى نفسك فيهم موزعةً على وجوهٍ كثيرة، وحين نتأمل العابرين نحن في الحقيقة نحاول أن نفهم أنفسنا. كل وجهٍ غريب يحمل شيئًا مألوفًا خوفًا يشبه خوفنا أو شغفًا يشبه بداياتنا أو انكسارًا مررنا به ذات يوم. وهكذا، يصبح التأمل في الناس تدريبًا على الرحمة لا على الفضول، فبدل أن نحكم على المظاهر نتعلم أن نرى ما وراءها من قصة ومن تعب ومن أمل. وربما لهذا السبب يجد كثيرون منّا في المطارات والمقاهي وبهو الفنادق نوعًا من الراحة الغريبة لأن كل شيءٍ فيها مؤقت. لا أحد يبقى طويلًا ولا أحد يُسأل عن التفاصيل. الوقت هناك لا يُقاس بالدقائق، بل بالعبور، وكأنّ الأماكن العابرة تذكّرنا بأننا نحن أيضًا عابرون في حياة بعضنا البعض وأن الجمال لا يأتي من البقاء بل من المرور بلطفٍ وذكرى حسنة.
ثم تأتي لحظةُ الصمت التي تُغلق فيها الدائرة وينتهي فنجان القهوة ويرحل الذين جلست تراقبهم ويبقى أثرٌ صغير في الهواء لا يُرى. تدرك حينها أن الحياة كلها تشبه هذا المشهد مقهى كبير ومقاعد تتبدّل وأشخاص يأتون ويرحلون. البعض يجلس قليلًا والبعض يمرّ مرور الكرام والقليل فقط يترك فيك أثرًا لا يُمحى.
وحين تنهض لتغادر تلتفت للمكان كما لو كنت تودّعه ثم تبتسم لنفسك لأنك عرفت شيئًا بسيطًا لكنه ثمين وهو أننا لا نحتاج أن نعرف الناس كي نفهمهم ولا أن نتكلم كي نسمعهم، بل يكفي أن نرى ونصغي ونتذكر أن خلف كل وجهٍ عابر رواية كاملة تبحث عن قارئٍ لا يُصدر حكمًا.