: آخر تحديث

واخشيتاه من الذكاء الاصطناعي

3
2
1

أنا من جيل عايش تطورات طباعية منذ أن كنا ندفع بأوراق بخط اليد إلى عمال مهرة في جمْع حروف الكلمة حرفاً حرفاً لتغدو كلمات... فعبارات مع تشكيل الكلمة ربما تحتاج دقة معناها إلى همزات وفتحات وكسْرات وضمَّات وعلامات تعجُّب واستفهام، ثم وضْعها في قوالب قبْل إرسالها إلى المطبعة التي كانت في بداية اختراعها تطبع الصفحة تلو الصفحة، ويستغرق ذلك الوقت إلى أن ينتهي أمر الطباعة الذي يستغرق بضع ساعات لكي تصبح الصحيفة جاهزة، ويكون الباعة منتظرين على باب المطبعة لكي يأخذ الواحد منهم بعض النُسخ يبيعها من خلال المناداة على اسم الصحيفة، وأحياناً على العنوان الرئيسي للصفحة الأولى، سياسياً كان أو جريمة.

تطورت حالة الطباعة، حيث بتنا ندفع بأوراق كتبناها برسم النشر، إلى آلة مدهشة كدنا لا نصدِّق حدوثها، حيث إن من الممكن الطباعة على آلة «الانترتيب» التي كانت من إنجازات ذلك الزمن الستيني الغابر.

ثم حدث التطور الأهم، حيث في استطاعة المرء أن يطبع على جهاز صغير ما كتبه ويبعث به إلى حيث النشر وتستغرق العملية بضع ثوان. وتلى التطور الأهم ابتكار أكثر أهمية تمثَّل في أنه لم تعد هنالك ضرورة للصحيفة الورقية بعدما التهمت تجربة التطوير الإلكتروني (قراءة الصحيفة على الشاشة) تلك الظاهرة... ظاهرة انتظار صباح كل يوم لصدور الصحف وحصول البشر على الصحيفة التي تدوم قراءتهم لها طوال نهارهم، وأما بعض ليلهم فللاختراع الذي لم يخطر في البال وهو التلفزيون، الذي جعل الدهشة به تُماثل دهشة ابتكار الهاتف الصغير النقَّال بديلاً للجهاز المثبَّت في البيوت والمحال، والذي لا يفي بالغرض كما حال هاتف اليد الإلكتروني النقَّال، الذي بلغ التطوير له أنه بات من الممكن تحويله سلاحاً مميتاً على نحو ما استعملتْه إسرائيل في لبنان تفجيراً لحامليه من حزبيين ومن كبار وفتية وفتيات بالأيدي التي بُترت أو الأعين التي فُقئت أو الوجوه التي تشوهت كما لم يحدُث بهذه البشاعة.

بعدما افترس التطوير الإلكتروني المتسارع هدوء حياتنا وكيف أن المجتمع بات لقمة في مسلسل التطوير هذا، ها هو يفترس بعض المناحي الإنسانية والروحية في حياتنا. فمن النادر أن ترى شخصاً، امرأة أو رجلاً، فتى أو فتاة، حيث هم داخل المنزل، أو في مراكز العمل أو في المقاهي والمطاعم أو داخل السيارة أو «الباصات» إلا ومعه جهاز هاتف نقال. وحتى في المنزل تجد كل فرد من الأب إلى الأم إلى الصبيان والبنات إلى العاملة في المنزل... تجد كل هؤلاء لا أحد يتحدث مع أحد. صمت مطْبق وكأنما العائلة في جنازة. وحتى إذا كان رب العائلة اصطحب أفرادها إلى مطعم لتناول وجبة الغداء أو العشاء، فإن كلاً يتأكد من أن جهازه الإلكتروني معه. وقبْل البدء في بتناول الطعام ثم أثناء ابتلاع اللُّقم وشرْب الماء والعصائر أو الشراب، وبعد الانتهاء من المأدبة الإلكترونية يكون كلٌّ كما تكون كلهنَّ منصرفين إلى «الموبايل» الإلكتروني يمعنَّ فيه بحثاً عن مواقع أو صور أو أمور أخرى. ويكون كلٌّ مطأطئ الرأس لا يدري أي حال صحية سينتهي إليها مع مرور الزمن، أي التواء الرأس وانحناء الظهر.

هذه الابتكارات تلغي بالتدرج كلاسيكية حياتنا والهدوء المتدرج في التعامل بين الناس. ويبدو أن ما هو قيد التسويق أعظم، ونعني به الذكاء الاصطناعي الذي كم يريد مبتكروه تحدي الذكاء البشري، كما أراده الله - سبحانه وتعالى - للعقول. وها هي الدول تندفع نحو اعتماد الذكاء الاصطناعي لإحراز قصب السبق.

إلى ذلك، ثمة تجارب حدثت بينها إنجاز إيجابي تمثَّل في أن فريقاً دولياً من الباحثين توصَّل إلى ابتكار طلاء يعتمد على الذكاء الاصطناعي قادر على خفْض درجات حرارة المباني حتى 36 درجة فهرنهايت. والطلاء المشار إليه هو ثمرة خوارزميات ذكاء اصطناعي متقدمة اختبر الباحثون طلاءهم هذا على نماذج مبانٍ تعرضت لأشعة الشمس لمدة أربع ساعات وكانت النتائج لافتة. إنها بداية كما اكتشافات الأدوية على مدار قرن، وأما التأكد من النجاح فيحتاج إلى مزيد من التجارب.

واخشيتاه على الذكاء الأصيل الذي وهبه الله - سبحانه وتعالى - بني البشر من الذكاءات المستحدثة على نحو ما أشرنا، وأحدثها التي سيكون للبشرية موعد معها، ونعني تَمدد ابتكارات الذكاء الاصطناعي وقدراته. والخشية مشروعة؛ كون هذا الابتكار الجديد سيجعل فاقدي الأعمال والوظائف على أنواعها قوافلَ ولا من سبيل لتوظيفهم، فضلاً عن سمات في الناس غير محترمة أوجزتها الباحثة في معهد «ماكس بلانك للتنمية البشرية» بقولها: «إن البشر يصبحون أكثر استعداداً للغش والتحايل عندما يطلبون من برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تنفيذ مهام معيَّنة لصالحهم...».

... والخشية موصولة ومشروعة من هذا الذكاء على جيل ما بعْدنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد