محمد ناصر العطوان
هناك أناس عظماء تترك لأبنائها ميراثاً من الأموال يتنازعون عليها، وأناس عاديون يتركون لأبنائهم ميراثاً من القصص والمعاني يعيشون بها.
كان عبدالمحسن فرج المرقاف، ابن الثانية والأربعين... يحمل في جيبه قائمةً بالعظماء الذين قابلهم في حياته، وشعر بأنهم يشبهونه وأنه يشبههم.
في الصباح، ينظر في المرآة ويرى آثار عنجهيتهم على وجهه... في العمل، كان يصافح زملاءه بحزم مفرط، كمن يسلمهم وثيقةً تثبت تفرده، حتى في طريقة وقفته وشرحه وشربه للقهوة، كان يضع يده على خصره وكأنه ينحني أمام جمهورٍ غير مرئي.
ولكن في الواقع كان كل من حوله يراه شخصاً عادياً... زوجته كانت تراه عادياً، ودائماً ما تردد على مسامعه «لا يوجد فيك شيء مميز سوى وجودي في حياتك»، وتطلب منه شراء الخبز في طريق عودته... أصدقاؤه كانوا ينسون مواعيد لقاءاته... مديره في العمل كان يراه «مدمن على العمل» ليس أكثر!... البائع في الدكان كان يناوله الفكة دون أن يرفع عينيه.
لكن عندما يعود إلى البيت، يحدث التحول العجيب.
كانت طفلته الصغيرة تمسك بقلم رصاص وتكتب على الحائط: «هنا يعيش أعظم رجل في العالم»... وكان ابنه يخبر أصدقاءه أن والده يستطيع لمس القمر إذا ما قفز من كرسي المطبخ.
في إحدى الليالي، بينما كان يروي لأطفاله قصة قبل النوم، قال لهم:
«إذا لعنتم الدنيا لمجيئكم إليها ذات يوم ولم أكن بجانبكم يومها، اعلموا أن لديكم قصة، لأن الناس لا يتركون وراءهم غير القصص».
لم يكن يعلم أنه يصف نفسه.
ففي صباح اليوم التالي، بينما كان يسير إلى العمل كأي يوم عادي، رأى طفلته قد رسمت صورته على زجاج النافذة المتسخ... كانت الصورة مشوهة، الأنف كبير جداً، والعينان غير متساويتين، لكن تحت الرسم كتبت: «أبي يملك العالم في جيبه الخلفي».
في تلك اللحظة، أدرك أن عظمته الحقيقية لم تكن في المرآة التي ينظر فيها كل صباح، ولا في قائمة العظماء في جيبه. بل كانت في عيون صغيرة ترى العالم من خلاله، وتعيد رسمه كل يوم بقلم رصاص على حائط غرفة نوم أو زجاج نافذة.
لقد فهم أخيراً ما قالته الروائية التركية اجة تمل فوران، لابنتها في رواية أصوات الموز:
«ليس لدي غير قصة أستطيع تقديمها لك، إذا لعنت الدنيا لمجيئك إليها ذات يوم ولم أكن بجانبك يومها، اعلمي أن لديك قصة، لأن الناس لا يتركون وراءهم غير القصص، تعلمت هذا لكثرة ما رأيت موت أناس رائعين مهما فعلنا لن نترك وراءنا غير قصة، حين نرويها تبدو كذبة كأنها لم تقع أبداً».
الناس لا يتركون وراءهم سوى القصص والمعاني... وقصته ستبقى محفورة على زجاج نافذة طفلته، حتى بعد أن يمحو المطر أثره من على الأرض. وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لم يُراد به وجه الله يضمحل!

